الوقت بدأ ينفد أمام المغرب

روبرت لوني لـ«فورين بوليسي»:

ازدهر تنظيم «داعش» مستغلاً غضب المهمّشين سياسياً واقتصادياً في دول غير مستقرّة ومختلة وظيفياً مثل العراق وسورية وليبيا. فلماذا إذن بدأ يستهدف المملكة المغربية التي تتمتع باستقرار نسبي؟

لا يكاد يمرّ أسبوع من دون أن تعلن الأجهزة الأمنية المغربية عن اعتقال عناصر من خلايا مفترضة لتنظيم «داعش». وبينما لا تزال الأرقام الدقيقة غير متوفرة، إذ تقدّر بين بضع مئات وأكثر من ألف مغربيّ جُنّدوا ودُرّبوا من طرف التنظيم في سورية، تخشى السلطات المغربية أن يعود هؤلاء المقاتلون المتطرفون ويستقطبوا المزيد من المجندين لشنّ هجمات على أراضيها. إن الذي سيحدد الأشكال التي ستتخذها تحركات العائدين، واحتمال نجاحها، مستوى السخط الشعبي الذي ينتظرهم في المغرب.

فمن جهة، يشكل ارتفاع معدلات الفقر في المغرب وتنامي البطالة في صفوف الشباب وقمع المعارضة السياسية السلمية أرضية خصبة لتنظيم «داعش» لتجنيد المقاتلين. ومن جهة أخرى، يستطيع المغرب أن يصمد في وجه العاصفة، وربما يصبح نموذجاً اقتصادياً للدول التي تسعى إلى نزع فتيل التهديد الذي بات تشكّله «داعش»، إذا نجح في نهج مقاربة فعالة تركز على تنمية تجمع بين أفضل المبادئ الاقتصادية الغربية والإسلامية، وأسلوب روحي إسلامي غير ثيوقراطي يستطيع أن يكافح التطرف. ولو أن ذلك غير مؤكد على الاطلاق، لأنه رهين في آخر المطاف بما إذا كانت لدى الملك محمد السادس إرادة سياسية لتسريع وتيرة الإصلاح.

أيام «الربيع العربي» سنة 2011، سارع الملك إلى إطلاق سلسلة من الإصلاحات الدستورية عقب اندلاع التظاهرات المطالبة بالديمقراطية في المغرب. وعلى رغم أنه لم يصل إلى درجة التخلي عن سلطاته لمصلحة نظام ملكي دستوري، فقد قام بتعزيز استقلالية رئيس الحكومة والبرلمان. فضلاً عن أن الدستور الجديد أسس لمزيد من الحريات المدنية وحقوق الإنسان، ولو أن هناك وعوداً مماثلة قُطعت في الماضي وألغيت في ما بعد. وعلى كل حال، نجح الدستور الجديد، موقتاً على الأقل، في نزع فتيل الأزمة، وعلى عكس عدد من الدول الأخرى، وجعل المغرب يبدو أقوى سياسياً بعد هدوء عاصفة «الربيع العربي».

وإذا كان من الضروري التحكم في الاضطرابات، فمن الضروري أيضاً أن يتعاطى المغرب مع المشاكل الاقتصادية العميقة التي يعاني منها. لقد تضرّر اقتصاده بشكل ملحوظ بسبب الأزمة الاقتصادية العالميةعامَي 2008 ـ 2009، خصوصاً مع تنامي البطالة في صفوف العمال المهاجرين في الخارج وانخفاض تحويلاتهم. وعلى رغم أنّ معدل النمو بلغ نسبة 4.6 في المئة ما بين 2000 و2010، فإن تزايد الفقر، وانعدام المساواة، واستفحال الأمّية، والبطالة في أوساط الخرّيجين الجدد، كلها أمور لم تتحسن منذ سنة 2000، في وقتً استفحل فيه الفساد والمحسوبية بين النخب بشكل ملحوظ.

حاول الملك محمد السادس ومعه الحكومة التي شكلها حزب «العدالة والتنمية» عقب انتخابات سنة 2011 إجراء إصلاحات اقتصادية. وأعلن، أي الملك، التوسع في اللامركزية لتعزيز الديمقراطية «من أسفل إلى أعلى» من خلال السماح لـ«الساكنة المحلية» بتولّي مسؤولية شؤونها بنفسها. أما حزب «العدالة والتنمية» فقد ذهب إلى أبعد من ذلك، إذ وعد بخلق فرص عمل، ورفع مستوى التعليم، والحدّ من الفساد، وتطوير الحكامة ومناخ الأعمال وسيادة القانون.

وعلى رغم أن المغرب تقدّم رتبتين في تصنيف مؤشر التنمية البشرية عام 2013، فإن تقدم البلاد لم يمتد إلى قطاعات أخرى، إذ انخفض النمو الاقتصادي بين عامَي 2011 و2014 إلى معدل 3.7 في المئة. أما معدل البطالة، الذي انخفض إلى 9.1 في المئة عام 2010، فقد بقي في حالة ركود منذ ذلك الحين، ولم يتجاوز عدد الوظائف الجديدة 21000 وظيفة عام 2014. هذا التراجع حصل على رغم اتباع النهج الليبرالي نسبياً في ميدان الاقتصاد، والذي جلب 3.4 مليار دولار في الاستثمارات الأجنبية المباشرة.

إن دراسة البطالة في المغرب تكشف عن أنماط خاصة مثيرة للقلق، إذ بلغت نسبتها 20.6 في المئة في صفوف الشباب، وارتفعت بشكل مذهل إلى نسبة 39.9 في المئة في صفوف العمال في المناطق الحضرية الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة. إن التهميش يجعل من هذه المجموعات الكبيرة من الشباب المغاربة برميل بارود ضخماً مرشحاً للانفجار والثورة. وإضافة إلى ذلك، فإن معدّل البطالة يرتفع اطراداً مع المؤهلات الوظيفية، من 4.5 في المئة في صفوف العمال غير المؤهلين، إلى 21.7 في المئة من العمال ذوي المهارات المهنية، إلى 24.6 في المئة من خرّيجي الجامعات. فلا غرابة إذن أن احباط المغاربة تجاه الحكومة في تزايد مستمر، كما يتضح ذلك من خلال انخفاض رأس المال الاجتماعي، إذ مرّ من الرتبة 13 في العالم عام 2010 إلى الرتبة 84 عام 2014.

إن ضُعف الأداء الاقتصادي في المغرب ليس مردّه إلى النموذج المغربي بقدر ما هو راجع إلى الطريقة التي ينفَّذ بها هذا النموذج، لا سيما في مجال «الحكامة». وعلى عكس ما كان متوقعاً، فشلت الإصلاحات السياسية والدستورية في تدشين مرحلة «حكامة» أفضل، والسبب في ذلك، في واقع الأمر، الإفراط في التركيز على القوانين والإجراءات المؤسساتية عوض التركيز على الإصلاح الجوهري. كما انخفض أداء الدولة على خمسة مستويات من المستويات الستة المكونة مؤشرات «الحكامة» للبنك الدولي بين عامَي 2010 و2013. أما الأحكام المتعلقة بحقوق الإنسان في دستور 2011 فقد تم تجاهلها إلى حدّ كبير.

إن الوتيرة البطيئة والموقتة للتغيير أعاقت الاقتصاد المغربي، إذ يبدو أن حزب «العدالة والتنمية» اعتمد الخطة الصينية القائمة على التطور المؤسسي، وعوض أن تقدم الحكومة على تغييرات جذرية في بيئة جديدة مليئة بالمخاطر، فضلت أن تتصرف بشكل تدريجي. أكيد أن هذا الاختيار يندرج في إطار البحث عن طرق أفضل لتحسين الاقتصاد، إنما بإصلاحات طفيفة يمكن بسهولة أن تؤتي عكس مفعولها إذا ما أثبتت انها عديمة الفعالية.

ثمة من يلتمس العذر للمغرب في هذا التدرج البطيء على ضوء الاضطرابات التي كانت عمت كل أنحاء المنطقة بسبب التسرع في إجراء الإصلاحات الـ«نيوليبرالية». ومع ذلك، فإن التفسير الاكثر احتمالاً أنه، على رغم مما يبدو وكأنه تدبير شامل للاقتصاد، فإن التنسيق في الواقع ضعيف بين الوزارات والوكالات المسؤولة على تنفيذ الإصلاحات الأساسية. ذلك أن النظام في المغرب لا يزال ملكياً بامتياز، ولا يملك حزب «العدالة والتنمية» أي سلطة على عدد من الوزارات الرئيسية التي تعود شؤون إدارتها في المقام الأول إلى الملك.

إن تعثر وتيرة الإصلاح الاقتصادي يمكن أن يعزى، جزئياً على الأقل، إلى غياب التناغم بين الوزارات، إذ تركز كل وزارة على أولوياتها الخاصة بها.

من أجل تحقيق الاستقرارين الاقتصادي والاجتماعي اللازمين لمواجهة تنظيم «داعش»، يتعين على المغرب أن يستكمل الانتقال من اقتصاد الريع إلى اقتصاد يعتمد على الإنتاج. ولن يتأتى ذلك إلا إذا تم السماح للحكومة بنهج مقاربة براغماتية متناسقة تهدف إلى تحقيق التنمية. ولهذه الغاية، فمن الأهمية بمكان أن يتخلى الملك عن سلطته لمصلحة حزب «العدالة والتنمية» من أجل القضاء، في أسرع وقت، على تضارب المصالح الخاصة.

إن النهج التدريجي البطيء في الإصلاح شكل دفعة قوية للاقتصاد الصيني لأن الصين كان لديها خيار المضي بالوتيرة التي اختارتها. أما بالنسبة إلى المغرب، فإن الوقت بات غالياً نفيساً أمام تهديدات «داعش» التي تلوح في الأفق.

لو نجح «الربيع العربي» في إرساء الديمقراطية في المنطقة، وسياسات فعالة لمواجهة التهميش الاقتصادي والسياسي، لن تظهر أبداً جماعات مثل «داعش». وحتى في الوقت الحاضر، لا تزال أمام المغرب فرصة لتحقيق التغيير والدمقرطة، وإلا فإن البديل المحتمل مستقبل سيحدّده العنف والحرب.

كان الملك محمد السادس قد صرّح أنه «لا يريد مغرباً بسرعتين: أغنياء يستفيدون من ثمار النمو ويزدادون غنى، وفقراء خارج مسار التنمية، ويزدادون فقراً وحرماناً». والسؤال المطروح، هل الملك على استعداد لمقايضة جزء من امتيازاته وسلطاته الواسعة، ليس فقط من أجل حقوق الإنسان والمساواة في الدخل، ولكن لإنقاذ بلاده من «داعش»؟ إذا ما لم يتخذ أي إجراء في القريب العاجل، قد يأتي اليوم الذي لم يعد فيه أمام الملك أيّ خيار.

ترجمة سعيد السالمي ـ «رأي اليوم»

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى