لعبة المعايير بين حماس والسلطة و«إسرائيل»
رامز مصطفى
تؤكّد مجريات الأوضاع المتصلة بالتطورات الفلسطينية ـ «الإسرائيلية»، أنّ الأطراف النافذة والفاعلة فيها وتحديداً حكومة نتنياهو والسلطة الفلسطينية وحركة حماس، تمارس أدواراً مزدوجة، فكلّ طرف ينطلق من خلفية مصالحه وطبيعة الرؤية التي يعمل وفقها، لنجد أنّ ثمة تقاطعات في مكان وتعارضات في مكان آخر، واستخدام ما يلزم لإيصال الرسائل وكبح الجماح.
يعتمد الجانب «الإسرائيلي» في تعامله مع الموضوع الفلسطيني استراتيجية برؤيتين، الأولى تتعلق بقطاع غزة وحركة حماس، والثانية بالضفة الغربية والسلطة الفلسطينية ومن خلفها حركة فتح. في الرؤية المتعلقة بقطاع غزة وحماس، فمنذ انتهاء عدوانه على القطاع في تموز 2014، أدركت قيادات الكيان أنها عاجزة عن إلحاق الهزيمة بالمقاومة الفلسطينية في غزة، على الرغم من المجازر والدمار الهائل الذي خلفته آلة عدوانهم على أرض القطاع، وخصوصاً أنّ الحرب الأخيرة، وهي الثالثة، من دون جدوى أو انتصار عسكري، لذلك عكف كبار القادة العسكريين والأمنيين وحتى المحللين والخبراء الاستراتيجيين على دراسة السبل والوسائل التي تحول دون وقوع مواجهات جديدة بالمعنى المفتوح لهذه المواجهات. ومن هنا تأتي التوصيات المطالبة بتخفيف القيود المفروضة على المعابر ودخول المواد اللازمة إلى القطاع، وتخفيف إجراءات التنقُّل من وإلى الأراضي الفلسطينية عام 1948. وذكرت صحيفة «هآرتس» في تقرير لها في الثامن من الشهر الحالي، أنّ من بين التوصيات المرسلة إلى وزير الدفاع موشيه يعالون طلب «السماح بإدخال البضائع عبر معبر المنطار، وتوسيع استخدام معبر كرم أبو سالم، مع إصدار التصاريح لفلسطينيين من غزة للعمل في التجمّعات القريبة من الحدود مع القطاع»، وبالتالي بضرورة البحث عن قنوات الاتصال الدولية والإقليمية للتواصل الغير مباشر مع حركة حماس بهدف التوصل إلى تهدئة مستدامة لمدة 10 أو 15 عاماً، وفق تفاهمات القاهرة التي تمّ التوصل إليها في عهد الرئيس المصري السابق محمد مرسي في تشرين الثاني من العام 2012، في مقابل سلة من المحفزات الاقتصادية والمشاريع التنموية بما فيها الميناء والمطار ورفع الحصار وإعادة الإعمار، وعلى قاعدة «التهدئة مقابل الإعمار»، أو وفق معادلة وزير الخارجية الألماني «التنمية مقابل الأمن».
ووفق التوصيات، اعتبر هؤلاء الضباط أنّ هناك إمكانية للتعامل مع حماس، وهذا ما صرّح به مدير الاستخبارات العسكرية السابق غيورا أيلاند إنّ «حماس ليست منظمة إرهابية مثل القاعدة، هي حركة سياسية انتخبت ديمقراطياً، وهي تمثل السكان الذين يدعمونها. ومصلحة حماس هي أولاً وقبل كلّ شيء حزبية، فهي تسعى إلى تحقيق شرعية دولية لحكمها في غزة»، ويضيف أيلاند: «صحيح أننا وحماس أعداء، لكنّ هذا لا يعني أنّ تضارب المصالح بيننا سيبقى بالمطلق، ولما كان هكذا فإنّ إسرائيل يمكنها أن تسمح لحماس أن تحقق مطلبها مقابل هدوء طويل المدى، والذي سيستمرّ إذا كنا سنخلق لحماس، إلى جانب الردع، حافزاً إيجابياً للحفاظ عليه أيضاً، حافز لا يتناقض بالضرورة مع احتياجاتنا الأمنية»، وكلّ ذلك يجري بعيداً من السلطة والتنسيق معها، بل وإدارة الظهر لها، وكأنها خطوة عقابية على توجّهاتها نحو المؤسسات الدولية، لا سيما الجنائية الدولية.
أما الرؤية «الإسرائيلية» الثانية في التعامل مع الضفة الغربية والسلطة، فهي تُترجم على ثلاثة مسارات، الأول يتعلق بالسكان، والثاني بالفصائل والنشطاء، والثالث بالسلطة والتنسيق الأمني. في ما يتعلق بسكان الضفة، فإنّ «إسرائيل»، وعلى الرغم من القلق الذي يساورها بسبب ازدياد ما تصفه بـ«الأعمال العدائية» التي يقوم بها الفلسطينيون في الضفة بما فيها القدس، وإنْ كان طابعها فردياً، غير أنّ حكومة نتنياهو تعمّدت ومن دون تنسيق أو تفاهم مع السلطة تقديم تسهيلات في الحركة والتنقل والتخفيف من الإجراءات على الحواجز، ورفع أعداد التصاريح للعاملين داخل فلسطين المغتصبة عام 1948.
وفي ما يتعلق بالفصائل ونشطائها، تبدي «إسرائيل»، تشدّداً وحذراً ولا توفر أيّ جهد في متابعة وملاحقة النشطاء بالإضافة إلى الرقابة اللصيقة، فالحسابات الأمنية الاستراتيجية لديها مختلفة بين القطاع والضفة. وهي في هذا السياق، وإنْ كانت تنشد التهدئة الطويلة مع حماس في غزة، لكنها لا تتهاون معها في الضفة وتحت أيّ اعتبار كان. والاعتقالات التي نفذتها أجهزة السلطة مؤخراً في حقّ عدد كبير من عناصر حماس، ليس بمعزل عن «إسرائيل» وأجهزتها العسكرية والأمنية.
أما ما يتعلق بالسلطة والتنسيق، ففي الوقت الذي تدير ظهرها للسلطة وتتجاهلها سواء بما يخصّ غزة والعمل على تهدئة طويلة، أو التسهيلات والتخفيف من إجراءاتها في الضفة، تعمل حكومة نتنياهو وأجهزتها الأمنية والعسكرية على التعاون اللصيق مع السلطة وأجهزتها الأمنية، بل وتثني دائماً على جهود السلطة ورئيسها والأجهزة الأمنية الفلسطينية.
أما في الشقّ المتعلق بحركة حماس، فهي من جهة تتعاطى إيجابياً مع الجهود المبذولة على خط تثبيت وقف إطلاق النار في قطاع غزة، أو التهدئة الطويلة، وهي تتعمّد عدم التنسيق مع السلطة أو حكومة الحمد الله، على اعتبار أنّ جملة من التراكمات الخلافية تحول دون التنسيق مع السلطة أو رئيسها بسبب ملفي الموظفين والمعابر، وقد دخل ملف تشكيل الحكومة ليُؤزّم الوضع بين حماس وفتح. وإنْ كانت حماس لا تتحدّث صراحة عما يدور من مفاوضات غير مباشرة مع «إسرائيل»، لكنها لا تنفي أنّ هناك أفكاراً قد طُرحت عليها وهي تدرسها. ويؤكد العديد من المحللين والمراقبين قرب التوصل إلى تهدئة طويلة، ويعزون الأمر إلى تصريحات أطلقها إسماعيل هنية قبل أيام حين قال: «مرحلة الانفراج لقطاع غزة اقتربت، بفضل التحرّكات والجهود الفلسطينية الكبيرة التي تُبذل على عدة صعد واتجاهات، سيزول الحصار».
وفي تصريح آخر قال للمصلين في صلاة التراويح: «أبشروا، رمضان الماضي كان الزرع، ورمضان الحالي سيكون الحصاد، الفرج قريب، والمرحلة المقبلة ستحمل الخير لأهل غزة الصامدين».
ويرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأزهر مخيمر أبو سعدة، بدوره، «أنّ هناك مؤشرات حصلت في الأيام الماضية، تكشف عن قرب التوصل إلى اتفاق تهدئة بين الطرفين»، ويضيف أبو سعدة: «إنّ إسرائيل وحماس، في طريقهما إلى التوصل إلى اتفاق تهدئة، يخفف عن سكان قطاع غزة المحاصرين، ويمنحهم فرصة لالتقاط الأنفاس».
أما في الضفة، فلا تخفي حركة حماس جهودها باتجاه تصعيد عملها في المقاومة كجزء من منظومتها في مواجهة الاحتلال، أو التشجيع باتجاه تفجّر الانتفاضة، وهذا لا يعني أنها تستكين في تطوير قدراتها العسكرية في قطاع غزة، وهذا ما أثبتته الحروب الثلاثة التي شنتها «إسرائيل» على غزة، وهذا ما تعتبره السلطة وحركة فتح وربما معهما فصائل ونخب وشخصيات فلسطينية، ازدواجية المعايير، ومحاولات لإحراج السلطة من خلال خلق المصاعب والمتاعب الإضافية لها. ففي الوقت الذي تسعى فيه حماس من أجل تهدئة في غزة، تعمل على تفجير الأوضاع في الضفة، وهو ما عمدت السلطة وأجهزتها إلى مواجهته من خلال حملة الاعتقالات الواسعة في حقّ ناشطين وقيادات من حركة حماس في الضفة الغربية.
أما السلطة التي تعاني ما تعانيه من إحباطات وتعثرات ومشاكل جمّة على مختلف الصعد السياسية والأمنية والاقتصادية والحياتية، والخلافات التي تعصف بين مكوناتها وأركانها، فهي تجد نفسها مستهدفة في ما يجري العمل عليه لإعلان التهدئة الطويلة بين حماس و«إسرائيل». فهي، أي السلطة، ومن موقع حشر «إسرائيل» عملت على رفع وتيرة التوجه إلى المنظمات الدولية ومحكمة الجنايات، وقد قامت بتسليم ملفات حول جرائم «إسرائيل» في حق الفلسطينيين، وهو ما أزعج حكومة نتنياهو وجعلها تسعى إلى ردّ الصاع صاعين للسلطة ورئيسها عبر بوابة قطاع غزة وخطب التهدئة مع حماس.
وفي ما يتعلق بالتعاطي مع حماس، فالسلطة تعمل على إجهاض أية خطوات تتعلق بإعادة الإعمار أو فتح معبر رفح، وتسبِّب المزيد من الإحراج لحماس في ملف الموظفين، والسير نحو خطوات أحادية بما يتعلق بالحكومة وعملها، الأمر الذي تردّ عليه حماس بتعطيل عمل الوزراء في القطاع، حيث يقوم الوكلاء بعمل الوزراء هناك.
قد يجد المرء منا أنّ السلوك «الإسرائيلي» في انتهاجه سياسة المعايير المزدوجة في التعاطي مع الشعب الفلسطيني وقضيته أمراً طبيعياً، من خلفية أنّ العدو يسعى في كلّ اتجاه إلى تقويض القضية الفلسطينية، ووأد تطلعات شعبنا ومنعه من تحقيق استقلاله وسيادته الوطنية، وبالتالي هو يخدم برنامجه ورؤيته في حرماننا من أبسط حقوقنا التاريخية على أرضنا المغتصبة فلسطين. وهو إذا ما تمكن من تقسيم الشعب الفلسطيني إلى جزيئات فلن يتردّد، وهو يمارس سياسة فرّق تسد والتقسيم السياسين، ويعمل الآن يعمل على تكريس التقسيم الجغرافي. لكن ما هي مبرّرات الآخرين في ما يمارسونه في حقّ بعضهم بعضاً؟