«البناء» تنشر فصولاً من كتابي د. بشار الجعفري «سياسة التحالفات السورية 1918 ـ 1982» ود. عادل سمارة «تحت خط 48 ـ عزمي بشارة وتخريب دور النخبة الثقافية»
نشرت البناء على مدى 3 حلقات فصولاً من كتاب الدكتور بشار الجعفري «سياسة التحالفات السورية 1918 1982»، وتنشر بدءاً من اليوم وعلى مدى 3 حلقات أخرى فصولاً من القسم الثاني من الكتاب وذلك أيام الخميس والجمعة والسبت من الأسبوع الجاري، إضافةً إلى حلقات مماثلة تتعلق بكتاب الدكتور عادل سمارة «تحت خط 48 عزمي بشارة وتخريب دور النخبة الثقافية».
أما كتاب الدكتور بشار الجعفري يقسم إلى قسمين أساسيين:
القسم الأول يحتوي على بابين هما: المؤثرات الداخلية وتتعلق بالأنشطة السياسية الداخلية والأحزاب السياسية، وأما الباب الثاني فيحتوي على المؤثرات الخارجية في شقّيها الأثر الاستعماري الغربي والواقع «الإسرائيلي».
أما القسم الثاني فيتعلق بالتطبيق العملي لسياسة التحالفات السورية، موزّعاً على أبواب ثلاثة هي: التحالف المتكافئ اتحاد سورية والعراق ـ التحالف المتكافئ والانصهار سورية ومصر ـ التحالف غير المتكافئ سورية والاتحاد السوفياتي ، إضافةً إلى خاتمة.
اختارت «البناء» من الكتاب أن تعرض بعضاً من الباب الأول في القسم االثاني «التطبيق العملي لسياسات التحالف السورية» وخصوصاً في الفصل الثالث «اختبار التقارب». إذ يعرض الكاتب إلى المرحلة الممتدة ما بين 1961 و1975 وما جرى خلالها من صراعات على السلطة خصوصاً في دمشق وبغداد وما رافق ذلك من فترات تفاهم وتنسيق وأيضاً من فترات الصراع والخصومة.
الكاتب هو الدكتور بشار الجعفري مندوب الجمهوري العربية السورية في الأمم المتحدة، صاحب الكفاءة العلمية والدبلوماسية المتميزة.
أما الكتاب فهو مرجعية سياسية تاريخية تتعلق بمرحلة مهمة من مراحل التاريخ السوري من وجهة نظر الكاتب. وقد تناول الجعفري عبرها أكثر المواضيع أهمية وخطورةً على الصعيد الاستراتيجي المتعلق بموقع سورية الطبيعية وأثرها على الخريطة الجغرافية السياسية في هذا الجزء من العالم، إضافةً إلى درس المحطات التاريخية التي شكّلت تحوّلات نوعية في مسار السياسة السورية.
سياسة التحالفات السورية (1918 – 1982) للدكتور بشار الجعفري
محنة الانصهار… الوحدة المنقلب عليها
في هذا العدد، يتطرّق الدكتور الجعفري إلى مقدمات الوحدة السورية ـ المصرية وخطواتها الإجرائية، إضافةً إلى الأحداث التي رافقت هذه المقدمات والتي واكبت قيام دولة الوحدة السورية ـ المصرية وما جرى داخل سورية من تململ واصطفافات مع الوحدة وضدّها، مبيناً الإجراءات التي اتخذها جمال عبد الناصر في ما يتعلق بـ«الإقليم الشمالي».
كما عرض الدكتور جعفري خلفيات مرحلة الانقلاب على الوحدة وظروفه وتداعياته وكل ذلك وسط عرض غني وكثيف للوقائع التي تصح أن تكون مادة لدراسة معمقة تطاول القوانين التي تحكم الصراعات وأسانيدها الجيوبوليتيكية.
أخذ التهديد التركي يتصاعد بقوة في الشمال، كما أخذ النفوذ الشيوعي المتصاعد في سوريا اعتباراً من العام 1957 يقلق حلفاء الحزب الشيوعي السوري وهم البعثيون والأحزاب الوطنية التقليدية الملتفّة حول رئيس الجمهورية شكري القوتلي وبعض الضباط الناصريين مثل عبدالحميد السراج، ولما كانت هذه المجموعة بحاجة لدعم الحزب الشيوعي السوري للوقوف في وجه الضغوط الغربية، فقد اضطر أعضاؤها إلى الالتفات صوب مصر لتعديل كفة النفوذ الشيوعي، والاستمرار في الوقوف ضد الغرب في آن واحد. وقد أدرجوا اتجاهم هذا ضمن إطار سياستهم الداعية للوحدة العربية.
في ظل تلك الأجواء، برزت فكرة الاتحاد مع مصر، وهذه الفكرة ستقي سوريا، برأي العديد من الشخصيات العسكرية والسياسية، من الوقوع في براثن المحور الهاشمي – التركي – الأميركي، وتحقق آمال الشعب السوري بالوحدة العربية التي لطالما حلم بها السوريون ونادوا بها. إلّا أن التخطيط للاتحاد المنشود كان متسرعاً وغير مدروس ومغموساً بشرط مسبق طرحه الرئيس عبدالناصر الذي رفض أي شكل من أشكال التقارب الشكلي، وأصر على وحدة اندماجية تامة وليس اتحاداً فيدرالياً، علاوة على أن العسكريين السوريين لم ينسقوا مع القيادات السياسية في دمشق بهذا الشأن. وفي أواخر كانون الثاني (يناير 1958)، وبعد اجتماعهم بالملحق العسكري المصري عبدالمحسن أبو النور، قررت مجموعة من ضباط وقيادات الجيش السوري وعلى رأسهم عفيف البزرة رئيس أركان الجيش السوري التوجه إلى جمهورية مصر والاجتماع بالرئيس جمال عبدالناصر لعرض فكرة الاتحاد بين سوريا ومصر.
في منتصف الليل، تم تجهيز طائرة خاصة من المطار العسكري بدمشق، لنقل الضباط إلى مصر، وهم: عفيف البزرة، أمين الحافظ، مصطفى حمدون، أحمد حميدي، عبدالغني القنوت، طعمة العودة الله، أكرم ديري، ياسين فرجاني، حسين حدة، جمال الصوفي، بشير صادق، ومحمد النسر. وقد ذهب الضباط من دون إعلام القيادات السياسية في سوريا، وحتى من دون إعلام وزير الدفاع خالد العظم، وبقيت الرحلة سرية ولم يعلم بها سوى عدد من رؤساء الأحزاب المؤيدين لمصر أمثال أكرم الحوراني وصلاح البيطار.
لدى وصولهم إلى مصر اجتمع الضباط أولاً بالمشير عبدالحكيم عامر، وبعد ثلاثة أيام رتب لهم اجتماع مع الرئيس جمال عبدالناصر، الذي أبدى استعداده العمل مع الضباط بعد تحقيق شروطه المتمثلة بـ:
أن تكون العلاقة بين سوريا ومصر وحدة اندماجية تامة، وليس اتحاداً فيدرالياً كما طرحه اللواء السوري عفيف البزرية.
أن تحل كل الأحزاب السورية نفسها.
أن يضمن الضباط حياد الجيش وعدم تدخله بالسياسة.
أن يتم عرض الوحدة على الشعب السوري للاستفتاء عليها.
بالطبع كان الرئيس جمال عبدالناصر من خلال السفارة المصرية في سوريا، يعلم علم اليقين أن الشعب السوري هو شعب قومي، محب للوحدة العربية، وإذا ما طرحت فكرة الوحدة عليه باستفتاء شعبي، سيقبل بها مباشرة من دون تردد، كما يعلم أن سوريا دولة استقلت لتنعم بحريتها، ولكنه كان يخشى أهواء الأحزاب السياسية السورية، فكان لا بد من حل الأحزاب، واتهام من يرفض حل نفسه برفض الوحدة والعداء للقومية العربية، ولذلك كانت الأحزاب السياسية مجبرة أمام ذلك التصعيد على حل نفسها، تلبية لرغبة الشعب الطامح بتحقيق وحدة عربية يترأسها الزعيم عبدالناصر.
أثار سفر الضباط إلى مصر ضجة كبيرة في الأوساط السياسية، وخاصة أنهم ذهبوا ووقعوا الاتفاقية مع المسؤولين في مصر من دون إعلام القيادة السياسية في سوريا. كما أثارت اتفاقية الوحدة استياء الكثيرين ممن علموا بموضوع سفر الضباط، لأن الأمور لا تسير بذلك الشكل المتسرع، إذ يجب أولاً تشكيل اتحاد فيدرالي بين الدولتين، يفضي إلى الوحدة. إلّا أن تعنت القيادة في مصر تجاه قيام وحدة اندماجية بين سوريا ومصر، ومغالاة بعض رجال السياسة والجيش السوريين في طلبهم للوحدة، أجبرت الجميع على الرضوخ لها، وخاصة أمام الزخم الشعبي المؤيد لها.
وهكذا توجه وفد سوري عسكري ضّم 14 ضابطاً إلى القاهرة بتاريخ 12 كانون الثاني (يناير) 1958. برئاسة رئيس أركان الجيش السوري اللواء البزرة، بهدف إقناع ناصر بالقبول بالوحدة الفورية مع سورية. ولحق بهم بعد يومين وزير الخارجية السوري صلاح الدين البيطار. وبتاريخ 28 كانون الثاني (يناير) وتحت ضغط العسكريين توجه الرئيس القوتلي بصحبة أعضاء الحكومة السورية إلى القاهرة، حيث أزيل تردد الرئيس عبدالناصر بشأن الوحدة. لكنه طرح شروطاً لإعلان الوحدة، وهي: أن تكون كاملة، وأن تحل الأحزاب السياسية السورية نفسها ضمن الاتحاد القومي الاشتراكي، وهو الحزب الوحيد في البلاد، وألا ينغمس الجيش في شؤون السياسة. وافق الوفد السوري على جملة تلك الشروط، وتم إعلان ولادة الجمهورية العربية المتحدة في الأول من شباط (فبراير) 1958. وفي الخامس منه وافق برلمانا البلدين على برنامج من 17 نقطة ينص على تشكيل دولة واحدة تضم إقليمين شمالي سوريا وجنوبي مصر. ثم جرى تنظيم استفتاء جماهيري بتاريخ 22 شباط (فبراير) عكس رغبة جماهيرية عارمة بإقامة الوحدة، وتنصيب الرئيس ناصر رئيساً للجمهورية الجديدة. وخلال حفل التوقيع على الاتفاقية بين الرئيسين ناصر والقوتلي، همس الأخير في أذن زميله المصري قائلاً: عليك أن تكون حريصاً في تعاملك مع السوريين، فأنا أسلمك دولة تعدادها خمسة ملايين مواطن، نصفهم يظن نفسه رئيساً، وهؤلاء لا مشكلة في التعامل معهم، أما المشكلة الحقيقية سوف تظهر عندما تتعامل مع النصف الثاني الذين يعتبرون أنفسهم أنبياء. وفي اليوم نفسه عيّن ناصر المشير عبدالحكيم عامر قائداً عاماً لجيش الدولة الجديدة. وفي الخامس من آذار (مارس) تم إعلان ولادة الدستور الجديد. سبق ذلك بتاريخ 24 شباط (فبراير) اتخاذ قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي قراراً بحل الحزب. وبتاريخ السادس من آذار (مارس) تشكلت الحكومة الوحدوية الأولى، وضمت وزراء مركزيين مشتركين وآخرين في حكومتين إقليميتين. كما تم إحداث أربع مناصب لنائب الرئيس يشغلها كل من: عبداللطيف البغدادي، وعبدالحكيم عامر من مصر، وصبري العسلي وأكرم الحوراني من سوريا. ومن بين الوزراء خمسة بعثيين، اثنان منهم الحوراني والبيطار من قادة الحزب. أما السراج فقد عُين وزيراً للداخلية في الإقليم الشمالي. غير أنه تم التخلي عن هذا النظام بتاريخ 8 تشرين الأول (أكتوبر) لدى استحداث حكومة مركزية موحدة ومجلسين تنفيذيين إقليميين يرأسهما نور الدين طراف (مصر) ونور الدين كحالة (سوريا). ثم قررت حكومة الوحدة إلغاء المجلسين بتاريخ 16 آب (أغسطس) 1961، واستحداث حكومة تمثل كامل أراضي الجمهورية العربية المتحدة. أما الحزب الوحيد (الاتحاد القومي) الذي تم تأسيسه في مصر بتاريخ 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1957 فقد توسع نشاطه ليشمل الإقليم الشمالي خلال تموز 1960. وكان الرئيس ناصر قد شكّل مجلساً وطنياً موحداً في آذار (مارس) 1960 يضم 400 نائب مصري و200 نائب سوري يتم تعيينهم من قبل الرئيس على أساس لوائح يقترحها حزب الاتحاد القومي. وعقد المجلس أول اجتماع له بتاريخ 21 تموز/ يوليو 1960 في القاهرة.
جرت إقامة الوحدة في سياق سياسي إقليمي متسم بتوتر قومي في العلاقات بين الدولة الجديدة وجيرانها. فقد كشف الرئيس ناصر بتاريخ 5 آذار (مارس) 1958، أي بعد شهر تقريباً من إعلان الوحدة، النقاب عن مؤامرة تورطت بها السعودية. ولم تخف حدة التوتر إلّا في خريف العام 1958 بعد أن شهدت المنطقة سلسلة من الأحداث البارزة، كان أهمها العصيان المدني اللبناني في أيار، والثورة العراقية ضد النظام الملكي في 12 تموز 1958، وقطع العلاقات الدبلوماسية بين الجمهورية العربية المتحدة والأردن. ودفع الخلاف الحاد الناشب بين ناصر وعبدالكريم قاسم حاكم العراق الجديد، بالرئيس المصري لنزع فتيل الأزمة بينه وبين الدول المحافظة كالأردن والسعودية، بغية محاصرة قاسم في بغداد. بيد أن ذلك التقارب لم يخفف من غلواء عداء هاتين الدولتين للوحدة السورية – المصرية.
على الرغم من التفاني في التعاون الاقتصادي والسياسي بين الجمهورية العربية المتحدة والاتحاد السوفياتي، شن ناصر حملة قاسية ضد الشيوعيين العرب. بدأ هجومه بتاريخ 23 كانون الأول (ديسمبر) 1958 ضد الحزب الشيوعي السوري، متهماً إياه برفض الذوبان في حزب الاتحاد القومي، والعمل على فصل سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة. وتصاعدت الحملة ضد الشيوعيين بعد تدهور العلاقات بين القاهرة والنظام الجمهوري الجديد في بغداد بقيادة قاسم الذي يدعمه الشيوعيون العراقيون، وذلك إثر المحاولة الانقلابية الموالية لناصر التي جرت في مدينة الموصل شمال العراق في آذار (مارس) 1955.
مع حزب البعث، تدرجت القطيعة رويداً رويداً لأن البعثيين أرادوا لعب دور مهم في الدولة الجديدة لكن تم إقصاؤهم عن السلطة لصالح العسكريين المستقلين والسياسيين الوطنيين، ومع التغيير الوزاري الذي طرأ بتاريخ 8 تشرين الأول (أكتوبر)1958 وجد البيطار والحوراني وهما نائبا الرئيس عن الإقليم الشمالي، نفساهما في القاهرة من دون أي سلطة حقيقية، في حين تعزز دور عبدالحميد السراج كوزير للداخلية عن الإقليم الشمالي. وزاد استياء البعثيين بعد انتخاب لجان محلية للاتحاد القومي في الإقليم الشمالي بتاريخ 8 تموز (يوليو) 1959، إذ لم يحرزوا سوى 250 مقعداً من أصل 9500 مقعد.
أكد الرئيس ناصر بتاريخ 21 تشرين الأول/أكتوبر إرادته بإبعاد البعث عن السلطة عندما أناب عنه المشير عامر للاضطلاع بسياسة الدولة في الإقليم الشمالي ومراقبة الميزانية وترؤس فرع الاتحاد القومي. بعد ذلك استقال كل من البيطار والحوراني من منصبيهما كنائبين للرئيس، كما استقال الوزيران البعثيان عبدالغني قنوت ومصطفى حمدون بتاريخ 30 كانون الأول، وتلا ذلك في الثالث من كانون الثاني (يناير) 1960 استقالة الوزير خليل كلاس، فشكلت الاستقالات نهاية التعاون بين البعث وناصر الذي أخذ يتكل أكثر فأكثر على رجل الأمن السراج.
في السابع من حزيران (يونيو) 1960 تم تشكيل المجلس الأعلى للاتحاد القومي، وتسمية عامر مراقباً عاماً، والسراج أميناً عاماً للإقليم الشمالي. وبلغ نفوذ السراج ذروته بتاريخ 20 أيلول (سبتمبر) 1960 عندما تمت تسميته رئيساً للمجلس التنفيذي للإقليم الشمالي، فأخضع البلاد لنظام بوليسي قاسٍ. وعندما جاء ناصر إلى دمشق قال للجماهير المحتشدة أمام قصر الضيافة في معرض حديثه عن السراج: هذا هو الطاهر والنظيف، ثم ندد بالمؤامرة التي حبكها الملك سعود لاغتيال ناصر في دمشق، وحقيقة الأمر أن العاهل السعودي كان اتصل فعلاً بالسراج سراً وسلمه شيكاً مصرفياً بقيمة مليون دولار لتمويل المؤامرة ضد ناصر خلال زيارته دمشق. فقام السراج بالتمثيل على الملك سعود، مدعياً القبول بالعرض السعودي، وعندما أصبحت الدلائل والوثائق التي تدين الملك سعود بين يديه سلمها لناصر الذي فضح الأمر علانية، مزيلاً حظوة الملك سعود وسمعته. ومن نتائج الفشل السعودي، تنازل الملك سعود عن الحكم لصالح أخيه فيصل الذي كان يشغل منصب ولي العهد.
وجد ناصر في السراج سنداً قوياً لسياسته في الإقليم الشمالي لا يمكن الاستغناء عنه، فأضحى اليد اليمنى له في سوريا، والمنفذ المخلص لتعليماته بعد أن وضع نصب عينيه الاهتمام شخصياً بكل المسائل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وقام السراج بدوره على أحسن وجه، إذ طلب من السوريين التخلي عن العمل السياسي في إطار الأحزاب السياسية التقليدية، والاطمئنان إلى تخطيط رجل القدر القادر على تصحيح الاقتصاد السوري، وتزويد الدولة بهيكلية تتفق مع واقع البلاد. وقد أنيطت بالسراج مهمة بلورة وعود ناصر وتنفيذها ونقلها بشكل إيجابي إلى الشعب السوري الذي أخذ يبدي مظاهر معادية لنظام السراج البوليسي.
وانطلاقاً من حرصه على تسهيل دمج اقتصاد الإقليمين الشمالي والجنوبي، سنّ الرئيس ناصر مطلع العام 1961 سلسلة من الإجراءات الهادفة لاستبدال النظام الاقتصادي الليبرالي السائد في الإقليم الشمالي، بنظام الدولة الموجه. ومن بين الإجراءات الهادفة لتطبيق الخطة الخمسية بشكل أفضل (1965-1905) تأميم الصحافة24 أيار – مايو 1960، والمصارف الأجنبية، مع إقامة نظام رقابة لتبديل العملات الأجنبية آذار – مارس 1961، وتأميم شركات التأمين 20 تموز – يوليو، وتطبيق نظام الضريبة التصاعدية على الأجور. يضاف إليها قانون الإصلاح الزراعي الصادر بتاريخ 26 تموز/يوليو) 1961 الذي حدد الملكية الفردية للأراضي الزراعية بـ 100 فدان فقط.
تعرض الاقتصاد السوري في تاريخه الحديث لآثار ثلاث أزمات مالية دولية، كانت الأولى العام 1929 في فترة الانتداب الفرنسي، حيث تُرجمت آثارها في تدمير الإنتاج الورشي والحرفي الوطني، النسيجي والجلدي وغيره، ووقوع كبار الملاكين التقليديين وكبار الملاكين المترسملين في ضائقة شديدة وصلت حد الإفلاس، والاختناق بديون المصرف الزراعي الباهظة، نتيجة انهيار أسعار المحاصيل في السوق العالمية، وتداعيات موجة الجفاف القاسي التي استمرت أربع سنوات، وقد ارتبط الملاكون التقليديون كما الملاكون المترسملون، بالسوق العالمية، من خلال الإنتاج الزراعي الموجه إلى التصدير، ولا سيما تصدير القطن، أو من خلال شراء الأسهم في البورصات العالمية. كانت تلك الآثار مدمرة للاقتصاد السوري بسبب اعتماد سلطات الانتداب الفرنسي سياسة الباب المفتوح، وانهيار الليرة السورية لارتباطها بالفرنك الفرنسي المترنح. لم يكن هناك مجال للخروج من الأزمة من دون تنويع النشاط الاقتصادي، وإعادة هيكلته على أساس انطلاق الصناعة التحويلية التي مهدت الطريق أمام بزوغ طبقة جديدة في دمشق وحلب سوف تحتل مساحات كبرى من الحيز السياسي، الحزبي والحكومي، الذي كان يحتله كبار الملاكين التقليديين والمترسملين.
أما الأزمة الثانية، فقد تمثلت بالأزمة المالية الآسيوية العام 1997، وكانت آثارها محدودة في سوريا، لكنها أدت لانخفاض سعر برميل النفط، الذي كان يمول القسم الأكبر من عملية النمو بعد انكفاء القطاع الخاص عن مواصلة اندفاعاته الاستثمارية 1996-1987) ) ما أدى إلى انكماش الانفاق الاستثماري وجمود النشاط الاستثماري، بينما تساقطت عليه آثار الأزمة الثالثة التي انكشفت في آب أغسطس2008، وتفاقمت أعراضها في الثلث الأخير من العام 2008 عندما انتقلت إلى عمق الاقتصاد الحقيقي، ثم امتدت من الدول المتقدمة إلى الدول النامية بما فيها الدول العربية، ودخل عندها الاقتصاد العالمي في فترة ركود ما زالت تداعياتها مستمرة. ولم تبرز الآثار المباشرة لحجم الاستثمار الأجنبي في سوريا، لكن برزت الآثار غير المباشرة، من خلال ما يلي:
تراجع الصادرات، وإفلاس المئات من المنشآت الصناعية الصغيرة والمتوسطة.
تدني تحويلات المهاجرين إلى دول مجلس التعاون الخليجي، والمقدرة بين مليار و1.4 مليار دولار سنوياً.
بعد هذا الاستطراد الزمني الذي يغطي فترة لاحقة لفترة البحث الأصلي لضرورات يفرضها سياق البحث، نعود إلى حيثيات الفترة قيد الاستعراض. فقد تفاعلت القوى المستاءة من الأزمة مع تحركات البورجوازية السورية الناقمة على إجراءات التأميم، وحصل بينها توافق في المصالح لإسقاط الوحدة، لا سيما أن النظام الملكي سقط في العراق وحل مكانه نظام جمهوري. وما سهل عمل الانفصاليين صدور قرار رئاسي بنقل السراج إلى الإقليم الجنوبي، وتعيينه نائباً للرئيس ناصر والتخفيف من حدة الرقابة البوليسية. غير أن السراج عاد إلى دمشق بتاريخ 26 أيلول (سبتمبر) 1961 وقدم استقالته نتيجة خلافاته مع المشير عامر ووقوف الرئيس ناصر إلى جانب الأخير. وفي الوقت نفسه تمت إقالة العديد من ضباط الاستخبارات الكبار، فاستفاد من ذلك العميد عبدالكريم نحلاوي، مدير مكتب المشير عامر الذي استولى على السلطة في دمشق بتاريخ 28 أيلول (سبتمبر) 1961، واحتجز المشير في الإقامة الجبرية وقائد الفرقة الأولى العميد جمال الأتاسي. ثم جرى تشكيل حكومة موقتة برئاسة مامون الكزبري وهو رجل سياسي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بأوساط رجالات التجارة والأعمال.
اتهم الكزبري ناصر بأنه أضعف الجيش السوري وخرب الاقتصاد وأقام ديكتاتورية مسلحة في البلاد. وقرر طرد كل الموظفين المصريين العاملين في سوريا، وحل فرع حزب الاتحاد القومي فيها، وتعيين قائد جديد للجيش هو العميد زهر الدين. وتم توقيف السراج لكنه استطاع الفرار إلى مصر بتاريخ 5 أيار (مايو) 1962. وقد أيد العديد من الزعماء الوطنيين السوريين الحركة الانفصالية بينهم: الحوراني والعظم والعسلي والبيطار سوف يغير موقفه (لاحقاً) والحزب الشيوعي السوري وغرفتا التجارة والصناعة. حاول ناصر، في البداية، التصدي للحركة الانفصالية باللجوء إلى القوة فأمر بإرسال 2000 مظلي وكميات كبيرة من العتاد الحربي إلى اللاذقية، ظناً منه أن حاميتي اللاذقية وحلب ستقفان إلى جانبه. غير أن تراجع حامية حلب عن موقفها المؤيد لناصر دفع به لتعديل خطته بشكل جذري. وبتاريخ 5 تشرين الأول (أكتوبر)، أعلن موافقته على الانفصال، وعدم معارضته عودة سوريا إلى الجامعة العربية والأمم المتحدة، محتفظاً لنفسه بالإبقاء على اسم الجمهورية العربية المتحدة، وعدم الاعتراف بالنظام الجديد في دمشق. اتهم الرئيس المصري العناصر الرجعية والإمبريالية بالتحرك ضد إرادة الشعب السوري، لكنه أقر بأن إلغاء الأحزاب السياسية خلق فراغاً استفاد منه خصوم الوحدة. وهكذا تأرجح موقف الرئيس ناصر من الانقلابيين بين الترغيب والترهيب، إلّا أنه تشدد تجاه الأنظمة العربية المحافظة، فازداد بالتالي الاستقطاب بين اليسار واليمين في الوطن العربي، وتشرذمت المواقف العربية بين مؤيد لناصر وبين مناهض له.
كانت تجربة الوحدة محزنة بالنسبة لجميع الذين تعاملوا معها. ويمكن القول إن البيروقراطية المصرية الثقيلة لم تتأقلم، أو لم تحاول التأقلم مع المجتمع السوري المنفتح والمتعدد الاتجاهات الذي ارتكس عندما عجز عن تحويل العقلية المصرية الأحادية الرؤية إلى عقلية وحدوية انصهارية. وحتى حزب البعث الذي سعى للوحدة بكل جوارحه، وحل نفسه في سبيلها، بدا عاجزاً عن الوقوف في وجه التيار الانفصالي، فأعلن تأييده له، علماً أنه لولا تأييد القوى المحافظة السورية لمشروع الوحدة العام، 1958 مخافة وقوع الحكم في قبضة الشيوعيين، لما تحققت الوحدة.
وبمعنى آخر، سمحت الناصرية لقوى اليمين السورية بالاحتماء بها في صراعها الحتمي مع الأحزاب اليسارية الأخرى، بما فيها بعض أجنحة حزب البعث. وقد وجدت مصر في ظل ذلك التناقض وسيلة لتكريس نفوذها في باقي المشرق العربي الذي تتجاذبه الميول الوحدوية المتنوعة. في الواقع إن التجاذب كان من جملة الأسباب التي أدت في ما بعد إلى تشكيل تيارين رئيسيين ضمن حزب البعث: جناح متشدد يرفض الانفصال وجناح يساري يرفض الوحدة. من هنا يمكن تفسير تبادل الاتهامات بين مصر من جهة، وجناحي حزب البعث في العراق وسوريا، من جهة ثانية. وهي اتهامات حصلت بين تياري البعث نفسه.
وما زاد اللوحة تعقيداً هو كون ممثلي اليمين في حزب البعث من المدن الكبرى، في حين أن ممثلي اليسار من العسكريين ذوي الأصل الريفي. أما أعمدة الحكم الانفصالي فهم أولاً الاشتراكيون من أنصار الحوراني جناح في حزب البعث الذين اتهموا الثنائي ميشيل عفلق، وصلاح الدين البيطار، بالمسؤولية التاريخية عن إقامة الوحدة وحل الحزب، في حين وجه الناصريون لهما تهمة خيانة مبادئهما ومثلهما القومية باعتبار البيطار أيد الانفصال.
وهكذا حوصر تيار البعث الأساسي بين نارين، وتضاءل عدد أنصاره حتى بلغ 2000 شخص فقط، فحاول قادته العودة مجدداً إلى اللعبة السياسية التقليدية من خلال المشاركة في الانتخابات التشريعية، لكنهم هزموا على يد تحالف انتهازي بين صفوف اليمين واليسار على حد سواء. ومن بين أعمدة الحكم الجديد تيار الأخوان المسلمين بقيادة عصام العطار والشيوعيون بقيادة مصطفى أمين، الأمين العام للحزب الشيوعي السوري خلال غياب خالد بكداش عن سوريا في عهد الوحدة، بينما كان ينتظر بفارغ الصبر السماح له بالعودة من منفاه في براغ، وحزب الشعب برئاسة ناظم القدسي، والحزب الوطني برئاسة الرئيس شكري القوتلي الذي شارك في صناعة الوحدة، والهيئات الاقتصادية والليبرالية، وفي مقدمتها الشركة الخماسية وعلماء الدين والصحافة (17 صحيفة من أصل 19)، وأخيراً الانفصاليون المتشبثون باستقلال سوريا ضمن حدودها وحمايتها من الديكتاتوريات العسكرية وكل النزعات الوحدوية.
كل هؤلاء أيدوا الكزبري وأبدوا استعدادهم للتعاون معه، فشكل حكومته الجديدة، وضمت في صفوفها أربعة محامين، واثنين من المصرفيين، ومهندسين اثنين، وأستاذ جامعي، وطبيب، وموظف كبير في الدولة، وثلاثة من حركة التحرر العربي التي أسسها العقيد الشيشكلي، وعضو واحد من حزب الشعب، وأربعة مستقلين. لم تضم الحكومة أي بعثي. دعت قيادة الجيش العليا الكزبري إلى إقامة ديمقراطية لا تكون لينة إلى درجة الفوضى ولا منقبضة إلى درجة الاستبداد والديكتاتورية.
وقام رئيس الحكومة بالمهمة خير قيام، إذ تم سنّ دستور موقت جديد بتاريخ 15 تشرين الثاني (نوفمبر) ينص على انتخاب مجلس تأسيسي في الأول من كانون الأول (ديسمبر) 1961 وانتخاب المجلس لرئيس جمهورية يمارس السلطة التنفيذية بمساعدة مجلس الوزراء. ولم يسمح بموجب الدستور الجديد للأحزاب السياسية القديمة بتشكيل نفسها مجدداً. بيد أن انتماءات المرشحين الحزبية ليست سراً على أحد لأن المراقبين قادرون على تحديدها بمجرد صدور نتائج الانتخابات.
استطاع حزب البعث مثلاً الحصول على 20 مقعداً في المجلس التأسيسي، أي ما نسبته 1 إلى 10 من عدد المقاعد، في حين سيطر المستقلون على عدد لا بأس به من المقاعد. أما الغالبية فكانت، على غرار ما حدث في انتخابات العام 1954 من نصيب المحافظين. وبعد انتهاء الانتخابات، بدأ العمل على ملء مناصب الرئاسات الثلاث: الجمهورية والمجلس والحكومة. فذهبت رئاسة الجمهورية لناظم القدسي ورئاسة المجلس التأسيسي للدكتور مأمون الكزبري ورئاسة الحكومة لمعروف الدواليبي، وثلاثتهم من المحافظين.
أخلص حكام سوريا الجدد لوعودهم التي قطعوها على أنفسهم، والقاضية باستشارة الأمة في المواضيع الحساسة، لكنهم تجنبوا السماح الفوري للأحزاب بإعادة تشكيل نفسها. ولما كانوا ليبراليين، فقد سمحوا للرئيس القوتلي بالعودة إلى دمشق، وتهربوا بحنكة من عروض الشيوعيين بدعمهم ضد ناصر، كما لم يسمحوا للأمين للحزب الشيوعي السوري خالد بكداش بالعودة إلى البلاد قبل الانتخابات تجنباً لترشيحه على اللوائح الانتخابية.
وبتحريض من القادة الجدد، اتفق الزعماء السياسيون على ميثاق وطني يؤكد على مبادئ العروبة والاشتراكية، ويضمن الفوائد التي حصل عليها العمال، كما يضمن في الوقت نفسه، حقوق أرباب العمل والأعيان والملاك. واتخذ الحكم سلسلة من القرارات الاقتصادية الليبرالية في الفترة الواقعة بين تشرين الأول (أكتوبر) 1961 وشباط (فبراير) 1962. ومن أهم القرارات إحياء نظام تبادل العملات الحر، وإلغاء العديد من قرارات التأميم الصادرة العام 1961، وتعديل قانون الإصلاح الزراعي. وكان الهجوم المصري المستمر على الحكم يدفع به لتأكيد ارتباطه بقضية الوحدة العربية وصولاً إلى تقديم اقتراح للجامعة العربية في الحادي عشر من تشرين الأول (أكتوبر) 1961، يهدف لإقامة اتحاد فيدرالي عربي. وبالطبع رفضت القاهرة الاقتراح، فاتجهت دمشق للبحث عن تحالفات جديدة، وكانت بغداد العاصمة المثالية لذلك.
حدث أول لقاء بين الرئيس القدسي والرئيس عبدالكريم قاسم في مدينة الرطبة على الحدود العراقية – السورية بتاريخ 26 آذار (مارس) 1962. لكنه لم ينجح في إزالة الخلافات في وجهات النظر السورية والعراقية بشأن الوحدة. في العراق هناك قوة غير مرئية تعارض حصول أي مبادرة وحدوية بين القطرين السوري والعراقي المؤهلين للانسجام الوحدوي أكثر من غيرهما. وتختفي خلف تلك القوة شركات النفط الغربية التي تخشى من أجواء عدم الاستقرار السياسي في سوريا واحتمال انتقال عدواها إلى العراق الأمر الذي يعرّض مصالحها النفطية للخطر.