متغيّرات حقيقية في المواقع القيادية السعودية

راسم عبيدات ـ القدس المحتلة

ما يحصل من تطورات وتغيرات ومناقلات وتبديل في مواقع الحكم، وفي هيكلية الدولة السعودية، لربما هو الأوسع والأكبر منذ سنوات طويلة، ففي مملكة تسودها الملكية المطلقة الوراثية، كان حجم التغيرات في هيكليتها وقيادتها محدوداً جداً ويتمّ في رتابة ونمطية عاليتين. وبقيت سياستها الخارجية ثابتة بنسبة كبيرة جداً، لكن الآن، في ظل وضع إقليمي وعربي مضطربين ولهما تأثيراتهما الواسعة في أوضاع المملكة، فإن المملكة وجدت نفسها بعد مجموعة من الرهانات الخاطئة بأن تُجرى عمليات تغيير وتبديل ومناقلات في هيكلية مواقعها القيادية لكي تتماشى وتتلاءم مع المرحلة القادمة، إذ كان لديها اعتقاد وأوهام بأن الإدارة الأميركية لن تقدم على إجراء اتفاق مع إيران حول ملفها النووي، وستشن كذلك حرباً على سورية، وبالتالي تطيح النظام السوري، وتفتح لها الآفاق والطريق، لتصبح اللاعب العربي الرئيسي في الشأن العربي والمكانة المميزة لدى أميركا والغرب، وكذلك تصبح لها مكانتها الإقليمية على حساب إيران وسورية. ولكن وجدنا أن تلك الرهانات كانت خاطئة، وحتى عندما وجدت السعودية نفسها مضطرة إلى صوغ تحالفات جديدة مع فرنسا و»إسرائيل»، وتمارس الحرد من خلال الاعتذار عن قبول مقعدها غير الدائم في مجلس الأمن لعام 2014، للضغط على أميركا كي تتراجع عن مواقفها بشأن إيران وسورية، إذ أقدمت على تعيين بندر بن سلطان من صقور المملكة الذين لهم مواقف متشددة من محور إيران – سورية – حزب الله لكي ينجز ملف إسقاط النظام السوري وإضعاف إيران من خلال إضعاف حزب الله اللبناني، لكن مثلما فشلت قطر وجر الفشل الى تغيير هيكليتها القيادية، فشل بندر في مهمته. تلك المهمة دفع لروسيا مليارات الدولارات لكي ينجح فيها، ولكن النتيجة كانت فشلاً ذريعاً، والفشل جعل المملكة ترى أن التطورات والتغيرات العربية والإقليمية والدولية تملي عليها إجراء عمليات تغير واسعة في هياكلها القيادية بلغت حد تغيير وجهة سياساتها الخارجية، فأمثال بندر وشقيقه سلمان من الصقور لم يعودا فرسان المرحلة المقبلة، ولذلك وجب التخلص منهما فهما عنوان مرحلة فشل في إدارة ملفات وأزمات والمملكة في حاجة الى عملية نقل السلطة من جيل أبناء الملك عبد العزيز الى الأحفاد بسلاسة، فالصراع بين عشرات الأمراء على أشده، ومن شأن تصاعد الخلافات بين الأمراء أن يهدد استقرار المملكة.

المرحلة والمنطقة والفشل تملي على السعودية إتمام تغييرات في مواقعها القيادية وفي سياستها الخارجية، فواضح أن النظام السوري لم يسقط بل يحقق المزيد من الانجازات والمكاسب العسكرية والسياسية، والانتخابات الرئاسية في الثالث من حزيران الجاري ستأتي بالأسد رئيساً، خاصة بعدما استعاد السيطرة على حمص وكذلك إيران يتعزز دورها وحضورها الإقليمي والدولي، وأميركا والغرب باتا يعترفان لها بدورها ومصالحها في المنطقة، والتفاوض معها سيستمر حول ملفها النووي. رغم الدعم العسكري والأموال التي دفعت لجماعة «داعش» لإسقاط المالكي في العراق وجدنا أن المالكي عاد إلى المشهد والمسرح السياسي بقوة أكبر، وفي لبنان جميع التفجيرات وعمليات الاغتيال والسيارات المفخخة في الضاحية الجنوبية وحارة حريك التي قامت بها قوى سلفية مرتبطة مباشرة ببندر بن سلطان لم تفلح في تغيير مواقف حزب الله أو إضعاف قوته، بل وجدنا الحزب يزداد قوة وتأثيراً ليمتد إلى خارج لبنان وليؤثر في الوضع الإقليمي برمته، ولذلك لم تستطع السعودية أن تجري هي وحلفاؤها من تيار «المستقبل» وغيرهم، الانتخابات الرئيسية وفق حساباتهم، وإنتاج الرئيس الذي يريدونه.

السعودية التي كانت ترفض مجرد الحديث أو الجلوس مع إيران، والتي استمرت في التحريض عليها للتخلص من ترسانتها النووية عبر الضغط على أميركا، أو حتى التحالف العلني مع «إسرائيل»، وتقديم الدعم والتسهيلات لها بما في ذلك استخدام أجواء المملكة وأراضيها لضرب إيران وجدت نفسها بعدما كانت ترفض مجرد الجلوس مع ايران، مضطرة الى إعلان استعدادها للتفاوض والتباحث معها، وبررت ذلك بأن لإيران دوراً رئيسياً في استقرار المنطقة، وهذا التغير في السياسة الخارجية السعودية يستدعي أن يغادر فرسان المرحلة السابقة من الصقور الساحة ومواقع القيادة، ليفسحوا المجال لقادة المرحلة الجديدة من الحمائم، والذين سيناط بهم قيادة المرحلة الجديدة.

صحيح أن للتغييرات والمناقلات في المواقع القيادية علاقة بما يحصل إقليمياً ودولياً وعربياً في المحيط السعودي، لكن الصحيح أيضاً في إطار ترتيب الأوضاع الداخلية، أن الملك حسم مسألة القيادة لأولاده، وبذلك قطع الطريق على الطامحين بالحكم من الأمراء الآخرين الذين يريدون أن تكون لهم حصة في الورثة والقيادة، ثلاثة منهم على الأقل، لمواقع قيادة مهمة في «السلسلة» القيادية للحكم السعودي: متعب على رأس الحرس الوطني برتبة وزير، مشعل أميراً لمكة برتبة وزير، وأخيراً تركي أميراً للرياض برتبة وزير … أما عبد العزيز بن عبد الله، الدبلوماسي السعودي المعروف ونائب وزير الخارجية، فالتكهنات حول مستقبله السياسي ما زالت تتواتر وثمة من يرشحه لتولي حقيبة الخارجية، خلفاً للوزير الحالي، إن استمر دولاب التغيير والتبديل في دورانه وسبق ذلك إعفاء نجلي الملك فهد عبد العزيز ومحمد من منصبيها في الحكومة وإمارة المنطقة الشرقية خلال السنة الماضية.

في انتظار التطورات المتلاحقة والمتسارعة في المنطقة، وفي مقدمها ما يحدث على الساحات السورية واللبنانية والعراقية، والمصرية، فإن تسارع التغيرات في المواقع القيادية السعودية ومدى انفتاحها على إيران ومعسكرها الحليف رهن بتلك التطورات، إذ بات واضحاً أن السعودية تقوم بعملية مراجعة لسياساتها ومواقفها السابقة، في ما يخص القضايا السورية والإيرانية والعراقية واللبنانية، فهي أضحت على قناعة تامة بأن المدخل إلى استقرار المنطقة هو إيران، وبالتالي لا بد من محاورتها والاعتراف بدورها ومصالحها في المنطقة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى