حول اليسار اليوناني
حميدي العبدالله
يُنظَر إلى الاتفاق الذي أبرم بين اليونان والاتحاد الأوروبي، بأنه إذعان لشروط الدائنين، وتخلي الحكومة اليونانية عن التفويض الذي منحته لها غالبية اليونانيين، بل ثمة من يتطرّف أكثر ويتحدّث عن خيانة حكومة أليكسيس تسيبراس للشعب الذي انتخبه من أجل الوقوف في وجه مطالب الدائنين. كما ينظر إلى هذا الاتفاق على أنه انتصار كامل ومدوّ للمستشارة الألمانية.
ولا شك أنّ هذه النتيجة كانت صفعة قوية لنا معشر المحللين الذين استخلصوا نتائج لم تكن واقعية من تصويت اليونانيين بغالبية تجاوزت 60 في المئة ضدّ شروط الدائنين، بما في ذلك توقّع عودة الديمقراطية، وانتصار إرادة الشعوب الأوروبية على بيروقراطية الاتحاد الأوروبي، وانتقال عدوى اليونان إلى دول أوروبية أخرى.
لا شك أنّ إدارة حكومة تسيبراس ظهرها للغالبية وعدم احترام نتائج الاستفتاء خلّف ليس فقط حالاً من الإحباط، بل حالاً من الغضب الشديد لدى شرائح واسعة في المجتمع اليوناني التي دعت إلى التظاهر استنكاراً للاتفاق الجديد.
كلّ ذلك لا ينفي حقيقة أنّ تسيبراس كان في مواجهة خيارات صعبة، فإنْ لم يوافق على الصفقة فثمة تصميم على إخراج اليونان من منطقة اليورو، وذلك القرار إذا ما اتخذ ستكون له تبعات، وبين هذه التبعات إفلاس البنوك، وربما تدهور أكبر في الوضع الاقتصادي فيما لو تمّ قبول الصفقة بشروطها المجحفة التي تتمثل بمزيد من الضرائب والاقتطاعات، علماً أنّ خبراء اقتصاديين مثل جوزيف ستيغليتز وغيره، أكدوا أنّ اليونان دفعت الثمن مسبقاً، وأيّ خروج لها من اليورو لن يرتب عليها تبعات إضافية، بل إنّ هذا الخروج، قد يحمل بصيص أمل بالتخلص من كابوس الدائنين وبقاء الاقتصاد اليوناني يعمل لمصلحتهم.
حتى لو كان الخيار الأفضل لليونان هو قبول الصفقة، إلا أنّ سلوك تسيبراس كان فيه الكثير من الارتجال، بمعنى أنه إذا كان غير قادر على التمرّد على الدائنين فلماذا لجأ إلى الاستفتاء وأنعش آمال اليونانيين بوجود طريق آخر؟
قد يكون تسيبراس قادراً على تمرير هذه الصفقة في البرلمان، وقد انتزع تفويضاً قبل إبرام الصفقة من البرلمان اليوناني، وقد يحصل على غالبية، إذا ما تمّ عرض الصفقة على الاستفتاء في ضوء دعمه لهذه الصفقة، حيث ستضاف أصوات مؤيديه إلى أصوات الذين صوّتوا ضدّ الاستفتاء السابق، ولكن ذلك لا يحول دون حقيقة أنّ اليسار اليوناني كرّس صورة اليسار التقليدي الذي يشكل جزءاً لا يتجزأ من الطبقة والنخبة الأوروبية الحاكمة، وهذا يعني أنه لا يختلف عن حزب الاشتراكية اليوناني، والذي لم يلمس الشعب اليوناني أي فرق بينه وبين الأحزاب البرجوازية، وهذا يهيل التراب على أمل راود الكثيرين بولادة يسار جديد.
عندما هبَّ عمال فرنسا في كومونة باريس كان ماركس على قناعة بأنّ انتفاضة العمال لن تحقق النجاح، وحذّر من ذلك قبل الهبة، لكن عندما أصرّ العمال على القيام بالانتفاضة، تضامن معهم، وقال لهم هبّوا لاقتحام السماء، وأكد أنّ شجب هذه الانتفاضة سيترك نتائج أسوأ من دعمها حتى وإنْ لم تقد إلى أي نتيجة.