كيف تنتهي الأيام؟
شهناز صبحي فاكوش
يبدأ المرء يومه مع إشراقة الشمس، هذا إنْ كان ليله هادئاً خالياً من أصوات أصبحت أكثر من اعتيادية. وحتى إنْ كانت صاخبة وطال ليله حتى بزوغ الفجر وارتقاء الشمس في السماء، لا بدّ أن يملأ يومه كالعادة، إنْ لم تطاوله قذيفة بغير هدف.
يشدّ المرء لجام يومه قدر المستطاع، محاولاً ترميم فجوات الدم التي أصبحت تحتلّ دماغه، وترسخ المآسي في ذاكرته، محاولاً زرع مساكب وردٍ ريّا، تزهر في بوادي نفسه، تصنع في حياته كلّ شيء يعجّ بالحياة، في مواجهة زمن ملأه هدير الدم.
يحاول في كلّ لحظة تناسي آثار قَتَلَةٍ يحاولون بتنفيذ الموت الشنيع تجفيف أديم الحياة. يجهد نفسه لتنسدل الستائر الكتيمة عليها، وهي تتبعثر مثل زبد الموج على الشواطئ الصخرية، التي تتربّع عليها عشتار، لتهب الحياة لحقول أحرقوا سنابلها.
يخرج من منزله متفائلاً، تستقبله الأيدي التي ترفع بإباء نعوش الشهداء، واحد اثنان ثلاثة… وأنامل نبا عنها لحن الشهيد، تعزفه بحب وألم تقطّعت له الأنفاس لوداعهم…
تراءى له في الأفق، جوادٌ حوذيه مشيق يتلع جيده، يشدّ لجامه، يرتفع من الأرض ببراعة، حاملاً الأرواح الطاهرة إلى علياء سمائها.
أحسّ لحظتها بطعن النصال تدمي خلايا جسده، تنز وجعاً على وطن جريح، وشباب يدفع الروح قرابين تُهدى ليظلّ حراً سيداً. وليظلّ عشاقه يسقون بواديه وشواطئه وصخوره المنسية أقداح الحب مترعة، بعرق السواعد ودم الشهداء.
عندها أحسّ أنّ الحياة ستزهر بشقائق النعمان. وتثمر على أغصان الزيتون. لتصنع الصبايا قلائدها من نواته، وتخضب ضفائرها من ذهب سنابله، فزغاريدهن لحظة الوداع تنبئ عن حياة الخلود…
كلّ هذه المشاهد، وآثار ما تطاوله أيدي الإرهاب والإجرام، من تخريب للتاريخ، وهدمِ وسرقةِ حضارات كتبت تاريخ هذه الأمة لعشرات الآلآف من السنين العتيقة والحديثة التي سابقت بها الزمن قرابة نصف قرن. هي تكتب اليوم حكايات الرعب والفزع…
تعود الروح إلى الكتب المقدسة تبحث في حناياها، هل حقاً فيها كلّ هذا القتل والموت الزؤام. هل فيها الحقد الذي نراه على الأرض في ممارساتهم، وهم يتلطون خلف الدين، لكنها لا تجد إلا النقاء والمحبة والسلام، والقيم والأخلاق والأسوة الحسنة.
لا تجد جائحة اليباس التي يفرضها الإرهابيون على الأرض، في أيّ من الكتب المقدسة… بل تتلقفها الغيوم البيضاء تتهادى على صفحاتها تحمل الخير والندى الذي يرطب النفوس لتخضرّ عطاءً وإيماناً ويقيناً بإحقاق الحق وإزهاق الباطل.
تهدأ روحه بعد أن كادت تفقد ثقتها بالحياة… تراءى له شريط المشاهد يمرّ أمام عينيه أحداث المعارك، وقوة هذا الجيش الصنديد، الذي ما زال قادراً على بسط سطوته على أرضه. وهذا الوطن الفولاذي الذي ما زال شامخاً صلباً لم ينكسر.
أما الشعب الذي يستشعر ذاته مضغة في جسده العظيم، لم يفصح في التعريف عن نفسه، لكن صموده تحدث عنه، مسطراً بطولات يمحق بها كيد أعدائه. يعمل لتفضيل يومه على أمسه، الذي سيصير أمساً في غده. لن يدعه مغبوناً ضائعاً في مواقيت الزمن.
أيها يمكن أن يأخذه إلى عوالم الخلود… كيف ستنتهي أيامه، للحظة تستفيق خلايا الإحساس والعقل ما دام لكلّ بداية نهاية، وما دام الموت حقيقة مفروضة لا مناص منها. فلمَ لا تكون النهاية مشرّفة مكللة بالشهادة، تحملها جياد ملائكية لجنان وعْدُها حقّ والله حقّ.
أقنعوهم بالجهاد وطريقه عندهم مغلوط، ودربه آسن. وغرّروا بهم بتعاليم الدين وهو منهم براء. ومنّوهم بالجنة والحور العين وهم جهلة تكفيريون… فهل من مدكر…؟
كيف ستنتهي أيامنا؟ وكيف ستنتهي أيامهم؟