حلمان ورجلان: بوتين وأردوغان

ناصر قنديل

– في وقت متزامن قبل خمسة عشر سنة تقريباً وصل رجلان يحمل كلّ منهما آمالاً وأحلاماً لدور يؤدّيه لبلده، ويستعيد لها عبره أمجاد العظمة التي عرفتها سنوات طوال عبر التاريخ، واستند كلّ منهما لتداخل المؤسسة الدينية مع هذه الأمجاد، ولقدرته على صناعة النمو والازدهار الاقتصادي كمصدر لصدقية مشروعه وسبب لتوسيع قاعدة المؤمنين بخياراته وعبقريته وزعامته. وعلى المستوى الخارجي تقدّم الرجلان بشخصية كاريزماتية لنموذج قيادي مبهر بمثل ما كان مبهراً نحو الداخل، حتى صارت نسبة المواليد الذين يحملون اسمه تتخطى حدود بلده.

– تشابهت ظروف وشخصيتا وأدوات فلاديمير بوتين ورجب أردوغان حتى يصعب إيجاد فروقات جوهرية بينهما، فكلّ منهما شخصية زعيم وقائد استثنائي نجح في تبوؤ أعلى المراكز في بلده لسنوات طوال. ومثلما قضت الضرورة على أردوغان أن يتناوب مع شريكه عبدالله غول على منصبي رئاستي الجمهورية والحكومة وإدخال تعديلات دستورية تتناسب مع هذا التناوب، كان بوتين يتناوب مع شريكه ديمتري ميدفيديف المناصب والصلاحيات. ومثلما كانت روسيا القيصرية مصدر إلهام وتطلع نحو الأمجاد بالنسبة إلى بوتين كانت تركيا العثمانية عند أردوغان سبباً في التاريخ وحلماً للمستقبل. مثلما ورث بوتين روسيا مهشمة ومدمّرة وخارج حسابات الكبار، كانت تركيا التي تسلّمها أردوغان كناية عن دولة هامشية تنهشها النزاعات وليس فيها مركز صناعة للقرار. وكما كان الاقتصاد الناهض وصفة كلّ من الرجلين كان بناء دولة تفرض حضورها في ملفات السياسة الخارجية الوجه الآخر للحضور. وعرفت روسيا وتركيا مع كلّ من الرجلين أيامها الذهبية، وكما تنكهت سياسة بوتين العلمانية بنكهة الكنيسة الأرثوذكسية كانت الرائحة الإخوانية تفوح من تحت البزة الأوروبية العلمانية التي يرتديها أردوغان.

– المفارقة هي أنّ العام 2015 الذي شكل عام النجاح الكبير لبوتين مثل عام النكسة وبدء العدّ التنازلي نحو الأفول بالنسبة لأردوغان. فخلال هذا العام بلغت شعبية بوتين في روسيا أعلى النسب منذ خمسة عشر سنة، بينما تدنت نسبة مؤيدي أردوغان إلى حدّها الأدنى، حتى جاءت نتيجة الانتخابات النيابية للمرة الأولى مخيّبة لآمال أردوغان ومشروعه، فخسر فرص تعديل الدستور ومعها فرص تشكيل حكومة ينفرد بها حزبه للمرة الأولى، واستعصى عليه تشكيل تحالف حاكم. وبالتزامن مع نجاح بوتين في مشاريع خطوط أنابيب الغاز كانت مشاريع أردوغان تمنى بالفشل. وكانت مكانة روسيا كمرجعية في الأزمات الدولية والإقليمية تترسخ، بينما مكانة تركيا تتراجع وتضمحلّ.وبينما كان الأمن الروسي ينجح في توجيه ضربات قاسية وموجعة للمجموعات الإرهابية في الشيشان كان الإرهاب ينتقل للهجوم مسجلاً أولى ضرباته الناجحة في تركيا. وبعكس تماسك مكونات المجتمع الروسي في ظلّ زعامة بوتين بانت وحدة تركيا كمجتمع متعدّد مهدّدة في ظلّ حكم أردوغان، خصوصاً مع سقوط الهدنة التي دامت لسنوات مع الأكراد بعد نجاحهم في لعب دور محوري في الانتخابات وفي الحرب مع «داعش». ومثلما جاء التفاهم على الملف النووي الإيراني انتصاراً للديبلوماسية الروسية جاء صفعة للديبلوماسية التركية.

– بين روسيا وتركيا وبين بوتين وأردوغان نشأت علاقات تعاون كثيرة، والبلدان يتشاطران العبور في البحر الأسود، وأنابيب الغاز والنفط الكثيرة. ورأى بعضهم في الاهتمام الذي يبديه بوتين نحو تركيا علامة ضعف لروسيا وقوة لتركيا وأردوغان، ولم تكن علاقة تركيا بأميركا ولا عضويتها في الأطلسي عائقاً في وجه ما حققته في سنوات النجاح والتقدّم، فكلاهما موجود قبل ظهور نجم أردوغان واستمرا معه. وبالتأكيد فإنّ الفراغ الذي يعيشه العالم الإسلامي على المستوى القيادي منح أردوغان نقاط تفوّق بالمقارنة مع بوتين الذي لم تتحوّل مسيحية الكنيسة التي تسانده إلى جواز مرور في السياسات الخارجية نحو الدول أو نحو الشعوب بينما حصل العكس مع تركيا ومع أردوغان شخصياً، حيث الهوية الإسلامية فتحت لتركيا وأردوغان أبواب قلوب ملايين المسلمين الباحثين عن مكانة لائقة لهم في العالم وعن قيادة تصون حقوقهم وقضاياهم، كما فتحت الهوية نفسها فرص التشجيع من الغرب والتفهّم لخصوصية يستوجبها ملء فراغ هذه الهوية بمكانة قيادية على قاعدة الاعتدال والانخراط الإيجابي في العلاقات الإقليمية والدولية. فما الذي جرى حتى هوت إلى القعر حكاية زعيم صعد نجمه وبدأ بالأفول مقابل زعيم يواصل الصعود بثبات؟

– الفارق الوحيد بين الرجلين الذي يسمح بتفسير النتائج المفارقة لتجربة كل منهما هو أن أحدهما وهو بوتين اعتمد الأخلاق في السياسة بينما اعتمد الآخر البلطجة، أحدهما اعتمد نبل الوسيلة من نبل الغاية والثاني اعتمد الغاية تبرّر الوسيلة، أحدهما كان صادقاً في تمسكه بمعايير واحدة في السياسة تقوم على القانون الدولي والتمسك بسيادة الدول والثاني استباح المحرّمات وانتهك سيادة جيرانه ومدّ يده للإرهاب ولم تبق أمامه محرّمات، تخلى بوتين ببساطة عن حليفه رئيس أوكرانيا لأنه تيقن من عدم وجود صدقية شعبية لزعامته، من دون أن يتخلى عن حقوق المواطنين الروس الأوكرانيين في شرق أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، لكنه منع كلّ محاولة للنيل من الرئيس السوري بشار الأسد لأنه تيقن من أنّ غالبية شعبية تسانده ومن كون المتدخلين لإزاحته يريدون وضع اليد على سورية وإنهاء قرارها المستقلّ، بينما كان أردوغان يرعى استجلاب الإرهاب إلى سورية ويستسقي لها الدماء والخراب أملاً بأن تسقط سورية كثمرة ناضجة في حضنه.

– انتصر بوتين ويتقدّم من نصر إلى نصر بقوة الأخلاق، وهوى أردوغان ويهوي من قعر إلى قعر بدفع الانتهازية واستباحة الدماء والقوانين والمحرّمات.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى