مأساة يونانية؟
ترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق
نشرت كلّية «S P Jain School of Global Management»، أي كلّية إدارة الأعمال الأسترالية، والتي لديها فروع في دبي ومومباي وسنغافورة وسدني، تقريراً حول الأزمة المالية اليونانية، والتي تنسحب على الاتحاد الأوروبي ككل، في ظل تكهّنات انسحاب اليونان من منطقة اليورو.
وجاء في التقرير:
يقع المراقبون في حيرة وارتباك عندما يسيطر بلد صغير كاليونان على وسائل الإعلام، تماماً كما حصل في الفترة القصيرة الماضية. فاليونان بلدٌ يعدّ 11 مليوناً، ولا يشكل اقتصاده أكثر من 0.4 في المئة من الاقتصاد العالمي. فلِمَ إذاً تكبّد كلّ هذا العناء؟
في الواقع، إنه قلق كبير من احتمال سقوط أحجار الدومينو ـ بمعنى ـ من سيكون التالي بعد سقوط اليونان: إسبانيا، إيطاليا، البرتغال؟ وهل من الممكن أن نشهد تصعيداً لأزمة اليورو يضع حداً ونهاية لمنطقة اليورو؟ إنها أيضاً مسألة الأسواق المالية العالمية الهشّة وغير المستقرة والمتشابكة بشكل وثيق ومتكامل، والتي من الممكن أن تكون إحدى الإشارات السلبية التي قد تقود إلى مراعاة هذا السلوك الذي ينشر العدوى في أرجاء العالم المالي. ففي أيلول عام 2008، وعندما واجهت إحدى الشركات «ليمان براذرز» الإفلاس، تخبّط الاقتصاد العالمي في فوضى مالية كبيرة في ظلّ الأزمة المالية العالمية. ويرتبط الأمر أيضاً بالسياسات الاقتصادية الشاملة في بلد مثقل بالديون: فهل هي سياسة التقشف وطريقة شدّ الحزام للحدّ من تراكم الديون، أم أنه علينا تحفيز الاقتصاد حتى ولو على حساب تراكم المزيد من الديون، تحفيزٌ يتوسع ويولّد المزيد من فرص العمل والدخل لدفع الديون المتراكمة؟ هي بعض القضايا التي سنحاول إماطة اللثام عنها في هذا التقرير الموجز.
إن التركيز على المعضلات الحالية، يحجب مشاكل هيكلية عميقة الجذور ومرتبطة بشكل مباشر بالاتحاد النقدي.
الاتحاد النقدي الأوروبي
هذا الاتحاد النقدي يتكوّن من مجموعة من البلدان التي تتبنى العملة الموحدة مع بنك مركزي واحد يدير السياسة النقدية للمنطقة بأسرها. إن هذا الاتحاد النقدي الأوروبي هو الاتحاد الأكثر رسوخاً في العالم. يتألف من 19 عضواً مع بنك مركزي مشترك وعملة موحدة. يتكوّن النظام الأوروبي للبنوك المركزية من البنك المركزي في فرانكفورت و19 بنكاً مركزياً آخر تقع في الدول الأعضاء. ولا تستطيع هذه البنوك المركزية الوطنية طباعة عملة اليورو منفردة في البلدان الأعضاء، كما لا يمكنها تحسين القدرة التنافسية عن طريق تخفيض قيمة العملة الموحدة. فللاتحاد النقدي شروط شديدة الصرامة.
هل كان انتقال هذه البلدان الأوروبية إلى عملة موحدة خطأً مصيرياً؟ عندما انضمّت اليونان إلى هذا الاتحاد النقدي الأوروبي عام 2001، ظنّت أنه بإمكانها اقتراض الأموال على المدى الطويل، وذلك بالمعدل نفسه المتوفّر لدى الألمان. إن تبنّي عملة اليورو سمح لعدد من البلدان كاليونان بالاقتراض والاستهلاك أكثر بكثير مما لو لم تكن ضمن هذه المنظومة حيث كانت ستغرق في ديون ثقيلة لبنوك أخرى في أوروبا. والنتيجة النهائية جاءت على شكل غلاء في الصادرات، وارتفاع في الأجور وعجز في الموازنة والحساب الجاري الكبير، بما يتفق مع الإدارة الاقتصادية المسؤولة. حصل بعض التلاعب الإحصائي في البيانات الاقتصادية الرسمية ما راكم من من حدّة المشاكل قبل وقوع الأزمة الاقتصادية المالية العالمية. وقد قلّلت أرقام العجز من النفقات، إذ بلغ العجز المصرّح عنه في الموازنة أقلّ من 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الذي هو في الواقع أكثر من 15 في المئة. تلاعب مشابه حصل أيضاً في ما يتعلق بمعدّلات التضخم. فهناك في اليونان بعض الصعوبات المرتبطة بفاتورة الأجور في القطاع العام وفي المعاشات السخيّة وسنّ التقاعد في أوقات مبكرة، فضلاً عن أن التعليم والنظام الصحي الباهظ الثمن إنما ذات النوعية الرديئة، والامتثال لنظام ضريبي منخفض وفاعل وقليل العقوبات.
وأكد مارتن فيلدشتاين عام 2011 أن مشكلة أزمات الديون السيادية التي برزت بعد 12 سنة على إنشاء الاتحاد الاقتصادي، جاءت نتيجة للقيود الصارمة التي فرضها هذا الاتحاد على البلدان غير المتجانسة ويتضمن عدم التجانس هذا «البنية الاقتصادية، التقاليد المالية والمواقف الاجتماعية». ويؤمن فيلدشتاين أن البنك المركزي الأوروبي يمثل سياسة نقدية لا تزال منخفضة في معدلاتها المشتركة لدى الدول الأعضاء. وهذا المعدّل كان منخفضاً أيضاً في بلدان كاليونان، البرتغال، إيرلندا وإيطاليا التي اعتادت على ارتفاع معدلات التضخم. ونتيجة لذلك، فإن الحكومات والقطاع الخاص في هذه البلدان، عمدت إلى اتباع سياسة الاقتراض بشكل كثيف لتمويل النفقات الخاصة بكلّ منها. ومنذ البداية، كانت أسعار الفوائد في أوروبا الجنوبية أعلى بسبب المخاوف من تخفيض قيمة العملة والتخلّف، لكن، ومع اعتماد تراجع أسعار الفائدة على اليورو، حدث اقتراض هائل، وفقاعات كبيرة من القروض الإسكانية، وارتفاع تكاليف وحدات العمل، وتصنيع عاجز عن المنافسة وزيادة في العجز التجاري. إن انهياراً حتمياً لمثل هذه الفقاعات نتج عنه في نهاية المطاف عجزٌ كبير في الموازنة مع خطط إنقاذ مصرفية ومشكلة الديون السيادية التي بقيت محصورة في البنوك الأوروبية. غير أن وتيرة النمو البطيئة في هذه البلدان، والناجمة عن سعر صرف قوي وغير قادر على ممارسة سياسة نقدية ميسّرة، منع حكومات هذه الدول إلى الحدّ من العجز في موازناتها.
سياسة القيود
قد تستجيب مقاطعة كهذه في العادة إلى انخفاض في الطلب وتحفيز للنشاط الاقتصادي عن طريق إجراء سياسات نقدية موسعة. ومع ذلك، يجب على البنك المركزي الأوروبي إدارة السياسات النقدية المرتبطة بالحالة الاقتصادية للاتحاد في كلّ بلد على حدة، ما يعني أن أسعار الفائدة قد تكون مرتفعة جداً في بعض المحافظات ومنخفضة للغاية في بلدان أخرى. وفي ما يتعلق بالدين، فالأمر مرهونٌ بالاقتراض بالعملة الخاصة لهذا البلد أو ببلد آخر. فديون إسبانيا، اليونان وإيرلندا سحبت باليورو. أما اذا حصل الاقتراض بالعملة الخاصة بالبلد المقترض، فإن البنك المركزي يمكنه دائماً شراء الديون الفدرالية إذ يمكن خفض قيمة العملة. إن أمثلة نموذجية ناجحة على التقشف تشتمل عادةً على تخفيض العملة الكبيرة التي تجعل من صادراتها أكثر قدرة على المنافسة. غير أن اليونان لم تملك مثل هذا الخيار من دون عملتها الخاصة. وإذا لم تتمكن من السيطرة على العملة وتخفضها، اذاً، عليها التقليل من التكاليف الداخلية ومقاومة خفض الأجور. تمتلك البلدان المرتبطة بمثل هذا النظام، ميزانياتها الخاصة وسوق عملها الخاص، إنما ليس عملتها الخاصة وقد يؤدي هذا إلى الاستسلام إلى الركود والاضطرابات المدنية عند طلب استخدام برامج التقشف للتعامل مع مشاكلهم. وبما أن اليونان عضو في منطقة اليورو، فها هي قد علقت في قيود اقتصادية شديدة الوطأة والصرامة.
الأزمة الحالية
يمكن أن يُقال ـ وبحق ـ أن الإغريق هم في عدد من النواحي من سطّروا فصول مأساتهم الخاصة. لكن برنامج التقشف الذي فُرض عليهم من أجل حصولهم على الأموال المنقذة أدّى إلى انكماش الاقتصاد بما يقارب الربع، ارتفعت معدّلات البطالة إلى 25 في المئة وبطالة الشباب إلى 50 في المئة. أنفقت الحكومة اليونانية بإفراط خلال العقد الأول من القرن الحالي، ومنذ ذلك الحين، تمّ خفض الإنفاق والضرائب إلى حدّ كبير. انخفض كذلك التوظيف الحكومي إلى 25 في المئة، وقُطعت المعاشات السخية بشكل حادّ. ويقول بول كروغما إننا لو أضفنا جميع التدابير التقشفية، فسنكون بذلك قد قضينا على العجز الأصلي وسنحوّله إلى فائض كبير. لكن لمَ لم يحدث كلّ هذا؟ لأن الاقتصاد اليوناني أصيب بالانهيار، ويعود السبب في ذلك بشكل رئيسي إلى التدابير التقشفية الصارمة.
ويضيف: «الحقيقة أن أوروبا التكنوقراطية تشبه إلى حدّ بعيد الأطبّاء في العصور الوسطى الذين كانوا يصرّون على ترك مرضاهم ينزفون وينزفون إلى أن يحين وقت علاجهم ـ إن التصويت على نعم لليونان بهدف خدمة المزيد من التقشف للحصول على حزمة مالية أكبر قد يطالب البلاد بالمزيد من سنوات المعاناة ويخضعها لسياسات لم يصدف أن نجحت في حقيقة الأمر، وبالنظر إلى حسابات التقشف التي فشلت: قد ينكمشش الاقتصاد بطريقة أسرع مما يمكن أن ينخفض فيه الدين، لتكون حينها جميع أشكال المعاناة غير ذي قيمة».
لبّت اليونان على مدى السنوات الخمس الماضية معظم مطالب التقشف، ومع ذلك، لم يتحسن الوضع الاقتصادي، وهي قد رسمت حالياً خطاً في الرمال، مؤكدة أن المزيد من التقشف على هذا المنوال، لا بدّ له أن يتوقف.
ومع ذلك، فإن الوضع الحالي مزري للغاية. فقد خفّض البنك المركزي الأوروبي من إمكانية وصول المزيد من الأموال إلى البنوك اليونانية، مولّداً الذعر في نفوس الشعب ومجبراً البنوك على الحدّ من عمليات السحب او الإغلاق تماماً. فرضت الحكومة أيضاً ضوابط رأس المال لتقييد مسار العملة. إذا كان البنك المركزي لن يستأنف التمويل الطبيعي ويعجّل إدخال عملة موازية تتحوّل قريباً إلى الدراخما الجديدة، فعلى الحكومة اليونانية أن تسدّد مبلغ 3.5 بليون دولار بسبب البنك المركزي الأوروبي في منتصف تموز. وارتفعت أسعار الفائدة على السندات الحكومية اليونانية إلى 16 في المئة في الوقت الذي تستعدّ فيه الأسواق لاحتمال التخلّف عن السداد. وفي مثل هذه الحالات على البنوك أن تطبع عملاتها الخاصة مرة أخرى. إذ إنّ هناك انخفاضاً كبيراً في قيمة العملة الجديدة، وما لبثت استطلاعات الرأي أن أظهرت ميل الغالبية العظمى من اليونانيين إلى البقاء في منطقة اليورو.
نهاية اللعبة؟
ينصّ بول كروغمان على أنه كان من الواضح استغراق بعض الوقت للتأكد من أن إنشاء منطقة اليورو كان خطأً فادحاً. لم يتسنّ لأوروبا يوماً ظروفاً مسبقة وملائمة لتطوير عملة موحدة وناجحة. فهل من الممكن لهذه الدول خلال مواجهتها لأعمق المشكلات العودة إلى عملاتها السابقة، وبعبارة أخرى، ترك منطقة اليورو؟ إن خروج اليونان من منطقة اليورو لا يزال غير مستحبّ للغاية. ويخبرنا الخبراء القانونيون أنه ليس هناك من طريقة متماسكة في اليونان يمكن من خلالها تحقيق خروج منظّم، ما من آلية قانونية للقيام بذلك. ويضيف أن المحلّلين الماليين الذين يؤمنون باحتمال خروج اليونان من المنطقة هم إما مخدوعون أو يمتلكون القليل من الآليات وعمل الإجراءات المؤسساتية للاتحاد الأوروبي. حتى لو مُسحت هذه العقبات القانونية، فهناك مجموعة متنوعة من وجهات النظر حول تلك الدول التي ينبغي استبعادها من الاتحاد النقدي الأوروبي للحفاظ على قابلية هذا الاتحاد للحياة.
ويرى البعض أننا نواجه حالياً احتمال وجود أوروبيتين وإمكانية انفصال منطقة اليورو إلى منطقتين فرعيتين تلك التي لديها اقتصادات فعالة وإدارة اقتصادية حصيفة وتلك التي ليس لديها ذلك . وقد تكون ألمانيا هي البلد ذات الاقتصاد المنتج والفعّال التي يجب ان تسير بمفردها فضلاً عن أن معاييرها الانضباطية المالية والنقدية لا يمكن أن يقابلها أي مكان آخر في أوروبا. قد يوجد بديل آخر لهذا الاتحاد المالي، يتمثل في الهيئة المركزية التي تحدد الضرائب والإنفاق الحكومي بهدف استكمال الوحدة النقدية. ومن شأن الاتحاد المالي أن يحرمها من سياستها المالية، أو أن يوافق عدد قليل من البلدان على فقدان السيادة.
إن التماثل في دورات العمل هو شرط لإقامة اتحاد نقديّ ناجح. فعندما تختلف دورة العمل بشكل واضح، فإن لن يترك تغيير سعر الفائدة أو سعر الصرف بعض البلدان أشدّ فقراً، بينما تؤدي دورة العمل المتماثلة كما هو الحال الآن ، إلى تكلفة فقدان السياسة النقدية المستقلة وارتفاع سعر صرف اليورو بالنسبة للبلدان المتضررة. وقد أثبتت الأحداث الأخيرة أن منطقة اليورو تفتقر إلى آلية كافية ومرنة للتعامل مع الصدمات الاقتصادية. فامتداد آثار العجز الجوهرية لبلد واحد تؤثر بشكل مباشر على الترتيبات المالية للبلدان الأخرى التي لم تمتلك آلية تصحيحية فعالة. ولا يبدو أن أياً من البنك المركزي الأوروبي والمفوضية الأوروبية يملكان الوسائل اللازمة للتعامل بشكل سريع وفعال مع العواقب المترتبة في بلدان العجز. وقد لا تمتلك الوسائل المانعة للظروف الكامنة من الظهور.
إن أيّ نقاش في زيادة قدرة منطقة اليورو في التعاطي مع الصدمات الاقتصادية والمالية، عليه أن يتركز في نقطتين: تكمن الأولى في كيفية التعرّف على التبذير بدلاً من مواجهة التقلبات الدورية والسياسة المالية في بلدان منطقة اليورو والثانية، كيفية زيادة المصداقية في مؤسسات منطقة اليورو، مثل البنك المركزي الدولي. اذا كان من غير الممكن لهذه المتطلبات أن تتحقق، فإن البدائل الأقل جاذبية وبالتالي الفعالة، هي في تشكيل اتحاد مالي أو التخلي عن الاتحاد النقدي.
في وقت تكوين اليورو عام 1999، وافق بعض المعلّقين الأجانب، على أن أيّ اتحاد نقدي غير مدعوم باتحاد سياسيّ، لا بدّ له من الانهيار. تختبر أوروبا في الوقت الحالي حقيقة هذه المقولة. وعلى عكس الولايات المتحدة، فليس هناك من سلطة سياسية فدرالية أو إعانات متبادلة بين الدول الإعضاء. على هذا الاتحاد إعطاء الحقوق المشروعة والقانونية لتحقيق الدعم بين الدول الأعضاء. وكذلك، على المصرف المركزي الالتزام بتأمين السيولة للبنوك الفردية في دول الاتحاد في حال حدوث نقص غير متوقع.
وإذا كانت هذه الإصلاحات الجذرية طويلة الأمد، ممكنة أو مرغوب فيها سياسياً، فإن هذا الأمر لا يزال موضع تساؤل. وضع اليونان الحالي هو وضع مزرٍ. قد نأمل فقط في التوصل إلى تسوية تحفظ ماء الوجه الجانبين، وإعطاء بلدان مثقلة بالديون مثل اليونان، فرصة لالتقاط الأنفاس وتحفيز نمو فرص العمل والدخل للمساعدة على سداد الديون المالية.