«ذاكرة القرصان»… وفلسفة القصيدة
ليندا نصّار
«ذاكرة القرصان»، ديوان جديد للدكتور الشاعر محمد ناصر الدين، وقد صدر عن دار النهضة العربية ـ بيروت هذه السنة. في نصوصه يدعو ناصر الدين عبر ثورة مخبّأة، إلى الحياة بطريقة حديثة. ومَن يقرأ نصوصه يجد نفسه شاخصاً أمام نقطة الانطلاقة التي ستحدث تغييراً يوماً ما.
لم تخلُ قصائد ناصر الدين من المعاني التضمينية. فمفرداته تحملك إلى معانٍ بعيدة عميقة وفلسفية، إذ يبثّ دراسته الفلسفية وثقافته التي لا حدّ لها في معظم قصائده.
في قصيدته «الشهيد»، يضع الشاعر شهيده وشهيد كلّ وطن بين الحياة والموت. إنه ذلك القائم من بين الأموات، وقيامته من وحي الحياة وخيانة الأوطان. شهيده انتقل حاملاً دماً وعَرقاً ونبيذَ التضحية. قام ليُكافأ في الحياة الثانية:
الشهيد لم يمت
لم يرمِ نفسه
تحت القطار السريع
لم يمت خلف الأسلاك
لم يتبخّر من المدخنة
لقد قام
حقّاً قام
من الوحل…
الشهيد لم يمت
الشهيد في الحياة الجديدة
من «الشهيد»، إلى «لوحات المساء»، حيث يفتح الشاعر بوّابة القصيدة ويضمن للكلمات عدّة معان، مهدي الإنسان طفل ورجل، ومهدي الحياة بدايتها «المهد»، إنّه ذاك الإنسان الذي يغلبه الحزن كما يظهر في القصيدة:
بعيدة
تلك السماء
ومهدي بعيد
الوقت يقضم القمر
يبعثر الأعياد المؤجّلة
في وداع الغجرية
يغطّي المواساة في عيون الخاسرين
لم ينسَ ناصر الدين دور الشاعر في تحريك الحياة. ففي قصيدته «الشاعر»، يلفت النظر إلى الشاعر الذي يدرك الأمور على طريقته، ويسمع أصواتاً لا يسمعها غيره، فيستطيع بإحساسه المرهف أن يدير حركة الكون. بالشعر يحرّك الشاعر الجمود. وقصيدته كرنفال احتفال بالحياة:
الريح عاجزة عن تحريك الوتر
والأيدي الناعمة مرمر جامد
وحدك أيّها الشاعر
تسمع أصواتاً
اقتربْ خطوتين
وانفخ على التمثال
ليبدأ الكرنفال
ومن «الشاعر» إلى القصيدة «صفحة 35»، إذ يطرحها بمفهومه الفلسفي أنها فسحة بياض الحزن وهي بياض الحياة:
القصيدة خيط يبيضّ من الحزن
في عين الإبرة
ليبحث عن زرّ
في الصحراء
ويتساءل الشاعر حول حقيقة الله. وبين الشكّ واليقين، يطرح تساؤلاً وجوديّاً يربطه بالقصيدة التي يُساء فهمها كما يساء فهم الله. وذلك بسبب طريقة إيصال حقيقته التي تترجم بأفعال البشر:
لعلّ الله شعر جميل
ولكن حتماً سيئ الترجمة
في قصيدته «ذاكرة القرصان»، التي اختارها الشاعر عنواناً لديوانه، يبدو أنّه القرصان الوحيد الذي يسكنه حسن الظنّ. فالعشيقة نهبت أشياء منه من دون أن يدري. ويصف قرصانه بذاك الذي تسكنه شهوة المرأة:
التي ستطبع قبلة على الخدّ
هي نفسها
التي تسرق ريشة
من قبّعة القرصان
والقرصان يظنّ الأغصان
أيادي عشيقاته الغريقات
المبتعدة كالسفن الهاربة
على عين الماء الحلوة البعيدة
يشتهي راقصة
تذوب في عريها…
إنه ذلك الذي على رغم جبروته وشخصيته القيادية، يهتزّ قلبه عند زوال الأقنعة: الذي يرتجف قليلاً
ليس الزجاج عند القذيفة
ولا السكّين فوق نحر الأنبياء
هو القلب فقط
إذا تمزّقت الأقنعة.
وتظهر ثقافة الشاعر واطّلاعه على كتابات الأنبياء في قصيدته «أحوال النبي»، إذ ترد أسماء: المسيح وبوذا والأناجيل والنبي يوسف وابراهيم والأولياء. يمزج الشاعر بين قضايا الوطن التي يحملها وشعره، فتأتي بعض قصائده وطنية المضمون بشكل غير مباشر.
لقد ضمّن الشاعر نهايات ديوانه نصوصاً نثرية تحمل وجهاً دينياً. إذ أدرج «العشاء الأخير»، فبدت صورة العشاء السرّي والرسول بطرس… ونجده يتوجّه في نصّ سيارات مهدي، وينظر حكمة الأطفال ونظرتهم الثاقبة إلى الكون. وينتقل الشاعر إلى نص «تلفاز جدّتي»، وفيه تعبير عن المرحلة الانتقالية من الطفولة إلى سنّ الشباب. فالجدّة مثال الحنان ودليل على أننا ما زلنا صغاراً، وعندما ترحل نُفاجأ، وكأننا عبرنا من مرحلة إلى أخرى. يسير هنا التلفاز متوزاياً مع الجدّة: فمن الأبيض والأسود عمر الطفولة في القديم في حياة الجدّة، إلى التطور والألوان بعد موتها. وفي النصّ أبعاد نفسيّة أيضاً، تتجلّى في رفض الإنسان الحالات الانتقاليّة والتغيير، خصوصاً في العبور من مرحلة عمرية إلى أخرى.
لنصوص محمد ناصر الدين عمق وفلسفة تنقلنا من عالم الكلمة المحسوس إلى عالم آخر. ففي مفرداته أبعاد على رغم عدم اهتمامه بالإيقاع، إلا أنّ هذا الزخم من الصور الشعرية، جعل من الديوان لوحة حياة يحرّكها الشاعر، يرى الناس والأشياء والألوان والأشكال، وكل ما فيها من كائنات وغير كائنات على طريقته الخاصة، وانطلاقاً من رؤياه الخاصة. لقد استطاع محمد ناصر الدين أن يصنع ديواناً جبله بالعمق الفلسفيّ بلغة راقية وسهلة، وقد دعا المتلقّي إلى مراجعة حساباته في عدّة نواحٍ من حياته.