حَربُ الإعلام

عدنان كنفاني

مع تقدّم وسائل الاتصالات والتقنيات العامّة بشكل متسارع، وتعدد مصادر المعلومات، سواء من خلال القنوات الفضائية أو الإعلام المرئي أو المسموع أو المقروء، أصبح العالم كلّه يشبه قرية صغيرة، لا تغيب عنه معلومة، ولا يتأخر وصولها وتعميمها بشكل واسع ومنقطع النظير على العالم كله، وأصبح من المعروف أيضاً مدى تأثيرها في الرأي العام، وبخاصة البعيد عن مجرى وساحة الأحداث، سواء كان إعلاماً نظيفاً ومحايداً، أو إعلاماً مضلّلاً له غايات خبيثة أخرى، شريكاً في حملات الهجوم والتشويه والتزييف المقصود.

ومن الطبيعي أن يكون للإعلام «المحايد» ضوابط، أهمها الضابط الأخلاقي والصدقيّة في نقل الخبر، والحيادية.. ولكن، هل تحققت هذه المعايير في الحملة «أو بالأصح» الحرب الإعلامية منقطعة النظير بإعلانها السافر على سورية، كما تتعرّض له سورية الآن؟

لقد كان الإعلام، ومنذ وقت سابق لافتعال الأزمة في سورية يؤسّس لتحقيق مصداقية مخادعة كي يستقطب الناس المتطلّعين بأكثريتهم للحرية والتحرر من الاحتلال والهيمنة، الذين آمنوا بأن الطريق إلى ذلك يأتي من خلال المقاومة التي حققت الانتصارات الأهم في تاريخنا الحديث، وكان مسايراً لتلك الهبّة القومية التي أسست عملها على الفعل المقاوم في كثير من المناطق الساخنة، أهمها الأحداث التي جرت في جنوب لبنان، وفي فلسطين، وفي الحرب التي أعلنت على غزة، وبالفعل تمكّن هذا الإعلام من استقطاب الجماهير، وأصبح بالتقادم يشكّل المصدر الأهم والأصدق والأكثر التصاقاً بالمقاومة بالنسبة للجماهير، ثم أصبح بخبث التوجّه يشتغل على التحريض والكذب والفبركة والتهويل والتزييف الواضح للجميع، وبدعم مشبوه من قوى الشر في العالم، وتطويع عملاء وخونة على كل المستويات، تارة بالمال، وتارة بالمنصب، وبكثير من وسائل الإغراءات التي تستلهم عقول الجهلة والأنانيين العابثين بقدر الأمّة، من الداخل ومن الخارج السوري، وأعلنت حرباً شعواء ضروس على سورية الدولة والأرض والبشر، وأركّز على أنّ المستهدف هو سورية كدولة وحضارة وموقع ومقاومة، وما شعارات الإصلاحات والحريّة وما إلى ذلك إلا يافطات وهمية تدفع للغاية الخبيثة الأساس لتفتيت وتدمير سورية لموقعها المتميّز جغرافياً، ولتمسّكها بخيار المقاومة، وتحالفها مع المقاومة في كل مكان، والتصميم على السيادة الوطنية مهما كان الثمن غالياً.

لقد أصبح خطر الإعلام أشد وطأة من خطر الحرب ذاتها، وأشد خطراً على عقول المتابعين بعد أن سخّرت في طرائق توصيلها للمعلومة كل وسائل الكذب والتزييف، مدعومة لوجستياً، ومن ماكينة مالية هائلة، ومن قوى أجنبية استعمارية عسكرية لها أكبر المطامع في المنطقة، وكل هذا الحراك غير المعقول، يصبّ أولاً وأخيراً في مصلحة الكيان الصهيوني الغاصب والمحتل والطامع إلى مزيد من الهيمنة والاحتلال والتوسّع والسطوة السياسية والاقتصادية.

ليس عيباً أن نعترف بأننا لا نستطيع أن نجاري الإعلام المضادّ لا ماديّاً ولا فنيّاً ولا تقنياً، بل يفرض علينا الحال مواصلة الصمود والتصدّي بقدراتنا الذاتية، وبالاعتماد على النخبّة من الإعلاميين، ومن المثقفين الطليعيين القادرين على الوصول إلى الناس، ومن خلال إيقاظ الوعي الوطني والقومي، وشرح وتشريح خيوط المؤامرة، وتداعياتها، وبكل الوسائل المتاحة، المرئية والمسموعة والمقروءة والمحاضرات والندوات، ومن خلال الاتصال المباشر مع الناس في كلّ مكان، ومن خلال كافة نتاجاتنا الأدبية والفنيّة أيضاً، ومن هنا يأتي الدور الهام للمثقفين والفنانين والأدباء والشعراء والباحثين الحقيقيين الذين يضعون خيار سيادة الوطن في مقدمة أولوياتهم.

الأمر ليس سهلاً يمكن القفز عنه ببساطة، بل هو صعب، وصعب جداً في ظلّ ما يجري، لكن ليس أمامنا غير الصمود والتصدّي بما نملك من وسائل، ومعنا الأصدقاء الشرفاء في العالم.

عندما تتعرّض سورية إلى هجومات مباشرة وغير مباشرة من أكثر من ثلاثين دولة، بعضها من الدول العظمى، «الولايات المتحدة الأمريكية، صاحبة القرار في المجالس والهيئات العالمية والدولية»، وكذلك الاتحاد الأوروبي، وهم يموّلون بالسلاح الحديث المتطوّر آلة قتل وتدمير، وكذلك من بعض دول في المنطقة وبخاصة بعض دول الخليج، وما يضخّون من أموال، وتسهيل شحن ودخول وتمويل وسائل القتل والتخريب إلى سورية، وهم أبعد الناس عن قيم الديمقراطية، بل مجرد ممالك ومشيخات تسلّطت على البلاد بدعم من أسيادهم، وكذلك من بعض الذين يدّعون بأنهم مشايخ دين وعلم، يُفتون بما لم ينزل الله به، ووصلت بعض الفتاوى إلى حدّ اللامعقول واللاواقعي والغريب عن قيم الدين الإسلامي الحنيف، ويفترون على الله والناس الكذب والتدجيل، وبالمرتزقة الذين يجلبونهم من أصقاع الأرض، قتلة ومتطرّفين وجهلة وساديين، ومجموعة من الخونة الذين استمرأوا خيانة الوطن، والعمالة للأجنبي، هربوا من ساحة الوطن إلى حيث رغد الحياة، وأفخم الفنادق، وأموال طائلة، ثم يدّعون بأن هناك من يدعم صمود سورية سياسياً سواء من دولة روسيا أو الصين أو دول بريكس، أو دعماً مباشراً في بعض ظروف ومواقع من رجال في حزب الله المقاوم، أو من بعض جبهات المقاومة الفلسطينية.

ولم لا والحرب معلنة على المقاومة بكلّ مناحيها ومراميها؟! ألا تستدعي هذه الحرب الطاحنة بكلّ تداعياتها أن يكون هناك لحمة قوميّة قادرة على إنقاذ الأمّة من الاستلاب والاحتلال والهيمنة؟

أخيراً… همسة حبّ أقولها، من المهمّ جداً أن نعيد ترتيب مشهدنا الإعلامي بكثير من الوعي والمشاركة، إذ لا يصحّ ولا يجوز أن نستقي أخبار ما يجري في بلدنا من وسائل إعلام خارجية، ولا خوف أبداً من بيان الحقائق فقد أثبت الشعب، وعبر أكثر من أربع سنوات على الأحداث، أنه قادر على التحمّل والصبر والصمود والفهم وتقدير الوضع والأمور.

اليقين الأهم الذي لا يفارق إيماني، هو في أنّ كلّ ما يبدو على المشهد من هيمنة إعلام مضادّ وكاذب ومزيّف، هو مشهد آني وموقت ومعيب وزائل لا محالة، ولن يجني أحد منهم خير الخسران المبين، ونحن الباقون لأننا أصحاب الحق والمصداقية والحضور.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى