الطوفان السوري انتخاباً
تركي حسن
لا أعرف إنْ كان فكره اكتنز قصصاً حضارية للشعوب وما اشتهر به من دسائس وحبك مؤامرات وكيد للشعوب ورموزها والعمل على ترويضها وهزيمتها وقيادة العملاء، فهو من الصقور الأميركيين في العقد الأخير. فهل قرأ قصة الطوفان الواردة في جميع أساطير الأولين من الحضارات مثل الشرق الأدنى كما يطلق على منطقتنا أو الهند وبورما والصين والملايو وبابل وآشور ومصر، وحتى في المايا والأزتيك والديانات التوحيدية. لا أعلم إنْ كان طيرانه وهو يقود الأمين العام للأم المتحدة من منطقة إلى أخرى أو من مؤتمر إلى آخر أو زيارة دولة ما قد أسعفه في الاطلاع على ثقافة الشعوب وقصة الطوفان أم أنه حلم بأونتابشتيم أو اتراحاسيس الفائق الحكمة وقصّ عليه قصة «الطوفان»، وعليه فإنّ التأريخ أصبح قبل الطوفان وبعده.
إنه السيد جيفري فيلتمان المعروف للبنانيين والسوريين وسائر المنطقة، الذي استعاد الطوفان ليصف فيه السوريين الذين تسابقوا في الخارج إلى صناديق الاقتراع، وأقتبس ما نقل عنه:
«طوفان بشري شهدته بيروت ليومين متتاليين فاجأ العالم كله والذين قالوا إنه منظم مثل الذين قالوا بعفويته، تلاقيا في عنصر المفاجأة».
لا أعرف لِمَ المفاجأة… انحرفت بوصلة بعض السوريين نتيجة الحرب التي تفنّن حلف العدوان في تطبيقها على السوريين نفسياً وديبلوماسياً وسياسياً وإعلامياً وثقافياً، مع المال الحرام في المواقع الحرام. فضلاً عن أدعياء الدين الذين يفتون غب الطلب ولا يهمّهم لمن يؤجرون فتاواهم، المهم أن يُدفع لهم، وقد باعوا ما حفظوه من أمور دينهم لمن يدفع أكثر. فبالأمس كانت لهم فتاوى حيال الغرب وبعض القيادات، واليوم يعاد إنتاج الفتوى نفسها في المقلب الآخر.
بوصلة السوريين تحرّرت وعادت إلى سابق عهدها بعد زوال المؤثرات عليها، وظهر ذلك في الطوفان البشري ـ مثلما سماه فيلتمان ـ في الشوارع والساحات وهم يحملون في فكرهم وقلبهم وطنيتهم المتوقدة المشهورين بها ومواطنتهم التي جسّدوها عاطفة وسلوكاً عملياً في ذهابهم إلى صناديق الاقتراع لإدراكهم حجم الأخطار التي تهدّد وطنهم إنْ هم تقاعسوا عن أداء الواجب الوطني. فبقدر إصرار حلف العدوان على ضرب الانتخابات نسفاً أو منعاً أو تأجيلاً، كان إصرار في المقابل على الذهاب إلى الانتخابات، ولم تمنعهم مشاق السفر أو الانتظار عن أداء واجبهم، ما أفقد حلف الأعداء صوابهم، فهم الذين سوّقوا خلال أكثر من ثلاثة أعوام عن الشعب السوري المتطلع إلى الحرية والتعبير والانتخابات ورفضه الاستبداد والظلم الواقع عليه من حكومته ومؤسساتها الأمنية… وأعتقد أنّ الدول التي منعت السوريين من الاقتراع تنبّهت إلى أخطار الصورة البصرية للسوريين أمام وسائل الإعلام في دحض ما سوّقوه عنهم وما عوّلوا عليه في أن يكونوا خنجراً في ظهر وطنهم وحصان طرواده للنيل من صموده.
صورة علّمت العالم مدى تعلق السوريين بوطنهم، ودحضت الزيف والتضليل الإعلامي والفتاوى والحرب النفسية والإعلامية عن السوريين في الخارج، لما عرَت أولئك أدعياء الحرية، والمعارضة السياحية التي تدَعي تمثيل السوريين في فنادق النجوم الخمس.
في قراءتي لتصريح فيلتمان وما حصل على الأراضي اللبنانية، أرى أنه يتضمّن النقاط الآتية:
1 ـ المفاجأة في حجم المشاركة للسوريين في الخارج، والذي فاق جميع التوقعات حتى المتفائلة منها.
2 ـ التحوّل النوعي الجذري في مزاج السوريين لمصلحة دولتهم.
3 ـ الاختلال في الميزان العسكري لمصلحة الدولة، أصبح مدعوماً باختلال أشدّ في الميزان الشعبي وهذا يقود إلى الإقرار بقوة الدولة السورية.
4 ـ الإمساك بالساحة اللبنانية والأشدّ خطورة الأردنية التي تتمدّد فيها.
5 ـ ثمة في واشنطن من يقول بعودة النازحين، وهذا يشكل بحدّ ذاته هدفاً سياسياً للتسوية السياسية المقبولة، وتبدأ بالقبول بنتائج الانتخابات التي سيتجدّد فيها حتماً للرئيس بشار الأسد لولاية جديدة.
6 ـ العناد لا يفيد، فلدى سورية الآن جيش من النازحين في الأردن ولبنان يعادل أضعاف أضعاف قواتها السابقة في لبنان واستدعى إخراجه ما استدعى، وهنا لا يمكن طرد النازحين الذين تصفونهم بالمظلومين.
7 ـ على السعوديين الإسراع في حلّ سياسي للأزمة السورية قبل أن تبدأ الخسائر بالتراكم في لبنان والأردن وتنتقل إلى أماكن أخرى.
8 ـ معلومات نيويورك الأمم المتحدة تقول إنّ السوريين أغلقوا الطرقات والشوارع بمليون سوري.
9 ـ الأوصاف العنصرية التي رافقت اقتراع السوريين والتي دعت إلى طردهم من لبنان ووصفهم كقوات ردع بشري جديد. والتحسّب مسبقاً عبر المطالبة بمنع تظاهراتهم عقب إعلان نتيجة الانتخابات وفوز الأسد.
10 ـ إجراء وزير الداخلية اللبناني من تيار المستقبل نهاد المشنوق مانعاً السوريين من السفر إلى سورية قبل الانتخابات اعتباراً من الأول من جزيران بحجة تنظيم النازحين، وتهديد من يسافر بإسقاط صفة النزوح عنه، علماً انه في 15 نيسان الماضي قال عنهم إنهم إخوة وضيوف. كما تأكدت المعلومات أنّ تيار المستقبل هدّد السوريين في مناطق نفوذه بمنعهم من الذهاب إلى السفاره للتصويت. وكانت لديه المعطيات أنّ السوريين الذين لم يتمكّنوا من التصويت سيتوجهون عبر الباصات إلى المناطق الحدودية للقيام بواجبهم وحقهم في 3 حزيران، وهناك حملة منظمة لتأمين ذلك، لذا سارع في منعهم.
11 ـ قراءة رسالة السيناتور ريتشارد بلاك عن ولاية فرجينيا إلى الرئيس الأسد، التي أثنى فيها على الجيش العربي السوري وبطولاته وبسالته ومهارته، واصفاً الإرهابيين بأنهم مجرمو حرب متوحّشون مرتزقة، يدخلون لقتل الشعب السوري، وهم من القاعدة التي نفذت 11 أيلول. وشكر الرئيس الأسد في ضربه الإرهاب معتذراً عن الحرب التي تشنّ على سورية. وأضيف إلى ما سبق ما قاله الرئيس أوباما مخاطباً جنوده بأنه لن يرسلهم إلى مناطق الصراع.
هذا من وحي ما صنعه السوريون في صمودهم طوال الحرب ضدّهم لأكثر من ثلاث سنوات، إذ فرضوا على العالم قناعاتهم، ولم تنفع معهم مختلف أشكال الحرب لتطويعهم وتركيعهم أو ترويضهم.
هذا غيض من فيض وطنية السوريين التي عبّروا عنها في وجه العدوان خارجياً… وأجزم بأنّ السوريين في الداخل وعوا المؤامرة والحرب عليهم، وردّهم كان بالذهاب إلى صناديق الاقتراع في الثالث من حزيران، ليشكل أحد أشكال الردّ التي تضاف إلى ما ردّوا به عبر أكثر من ثلاث سنوات، من خلال إعطاء التفويض الشعبي لمن يعبر بنا إلى برّ الأمان، مستندين إلى استمرار الصمود لنحقق النصر ونعيد الإعمار.
باحث في الشؤون الاستراتيجية