النظام الطائفي في لبنان: «فالج لا تعالج»… والنفايات تشهد
روزانا رمّال
تابع المهتمون بتغيير النظام السياسي اللبناني من هيئات ناشطة في المجتمع المدني ومثقفين غير منضوين في التنظيمات الطائفية ونخب تعتقد أنّ فرصة بناء دولة عصرية حديثة في لبنان تبدو ممكنة، بعناية، كيفية تفاعل شرائح الرأي العام اللبناني مع أزمة النفايات وما تختزنه من عبر وعناوين ومعان تتصل بقضية التغيير.
تبدأ المسيرة مع أزمة النفايات في كونها نفقاً خاصاً حفره أهل السياسة من خارج القنوات القانونية والدستورية التي أناطت المسؤولية عن النظافة في كلّ نطاق بلدي بالبلدية المعنية، وبقوة التدخل السياسي سلبت الصلاحيات من البلديات من دون موافقتها مؤسسات منتخبة وفقاً لتفويض قانوني من الناخبين في نطاقها من ضمنه مسؤوليتها عن النظافة وجرت دفعة واحدة سلسلة مخالفات جسيمة تطال تجاوز الصلاحية بقيام مجلس الإنماء والإعمار والهيئة العليا للإغاثة بتفويض من مجلس الوزراء وكلهم لا يملك تفويضاً من البلديات التي تعرّضت للعدوان على صلاحياتها، فوقّعت عقوداً بالنيابة عنها بجريمة انتحال صفة وتزوير إرادة، بحيث أنّ أي إخلال في تنفيذ الموجبات في نطاق بلدية معينة من جانب الشركة ولو تركت كلّ نفاياتها دون معالجة أو تجميع، لا تملك البلدية أي آلية قانونية للمحاسبة والمراجعة على عقد يفترض أنه ينفذ لحسابها وتدفع تكاليفه من موازنتها.
إنّ المخالفة التي لا تقلّ أهمية وتعادل جرم اختلاس أموال البلديات التي حُدّد سعر معالجة كلّ طن من النفايات على نفقتها من دون مشورتها وحرمت حتى من حقّ تلقيه من حساباتها لدى وزارة المالية وتسديده مباشرة للشركة التي تتلقى أموال البلديات قبل أن تقبض هذه البلديات مستحقاتها المتراكمة التي تتهرب الحكومة من توزيعها، بينما لا تتأخر شهراً على الشركة في السداد.
في قضية النفايات فوق جرائم سلب الإرداة الشعبية والتعدي على الصلاحيات وتجاوزها وتزوير الإرادة والاختلاس جريمة بيئية موصوفة حيث يجمع الخبراء على تخلف الطريقة المعتمدة في معالجة النفايات وعدوانيتها على البيئة، فالطمر هو الطريق الأقصر لتسميم التربة والمياه الجوفية وإنتاج زراعي موبوء وهواء ملوث في بلد مساحته الجغرافية ضيقة ومساربه المائية الجوفية متلاصقة وطبقاته الصخرية هشة في المناطق المكتظة بالسكان التي تقع على الساحل أو في تجويف سهلي يمثله البقاع بين سلسلتي جبال ما يجعل انتشار التلوث في الجغرافيا اللبنانية بفعل طمر النفايات وصفة سريعة لخراب التربة والمياه والهواء.
قضية النفايات هي مثال نموذجي على كيفية تتشكل المافيا المالية السياسية وكيف تكون عابرة للخصومات فصندوق الشركة وفقاً لقادة حملة الاحتجاج على الحكومة وسياساتها البيئية، يفيض بعائد يتخطى ضعف الكلفة ويتولى تنظيم الاحتفالات الانتخابية للوائح متنافسة ويتولى تمويل الماكينات الانتخابية وتمتلئ لوائح العمل مع الشركة بأسماء إعلاميين وحقوقيين وشخصيات عامة كمستشارين يتلقون مبالغ مالية بناء على طلب مرجعيات لها حصص من عائدات الشركة وصندوقها المخصَّص للمال السياسي كما يقول أركان حملة «طلعت ريحتكم» التي قادت اعتصام الأمس قرب السراي الحكومية.
في قضية النفايات وانسدادها، راهن الناشطون على انفجار الغضب الشعبي العابر للطوائف والولاءات السياسية لم ينجح الرغيف في تحقيقه في قضية سلسلة الرتب والرواتب، وراهنوا أنّ ما شهدوه من انتفاضة لإزالة أو إقفال مطمر الناعمة هو علامة لبداية صحوة تخرج الناس من تحت تأثير منوم الطائفية ومخدرها. وجاءت وقفة أهالي إقليم الخروب احتجاجاً على قرار يفترض أنه صادر بتغطية من مرجعيتهم السياسية والطائفية لترفع منسوب الأمل بتحول نوعي قيد الحدوث في مزاج المواطنين وطريقة اتخاذهم قرار التصرف ورسم سلوكهم السياسي.
يدعو متابعون للحركات الاحتجاجية المماثلة التي شهدها لبنان مرات عديدة منذ بداية الحرب الأهلية ومنذ الطائف بصورة خاصة إلى عدم المبالغة في التفاؤل، فحدود هذه الإرهاصات هي الشكوى والبكاء على حضن الأم التي تمثلها المرجعية الطائفية لكلّ جماعة والتدقيق في الحراك يكشف ببساطة هشاشة تعبيره عن محاسبة القيادة السياسية والطائفية. فتحرك إقليم الخروب مثلاً، لم يذهب نحو مقرّات المرجعيتين المعنيتين بالتمثيل السياسي والانتخابي للمنطقة بل إلى قطع الطريق التي عادة تقطع في وجه الخصم أو المنافس الطائفي الذي يتضرّر من قطع طريق الجنوب، ولا يستبعد المتابعون أن يكون ثمة رضا من المرجعيات السياسية والطائفية في قلب لعبة توجيه الرسائل سواء لتغيير معادلات مال النفايات وتوزيعه، أو سياسياً للمعنيين من الخصوم بفتح طريق الجنوب أو لوزير الداخلية المعني بحماية نقل النفايات وفتح الطرقات، ويسجل المتابعون والمهتمون غياب أي ظاهرة جامعة حقيقية ووزانة للبنانيين من مناطق وطوائف مختلفة عن الساحة كما يسجلون من قياس مزاج الرأي العام وفقاً لاستطلاعات رأي تجاهلت قضية النفايات وأجرتها مراكز متخصِّصة سألت عن رأي كلّ شريحة طائفية بقيادتها وجاءت النتائج متطابقة مع ما كانت عليه قبل أزمة النفايات.
في صالوناتهم يتحدث اللبنانيون لغة واحدة فيصفون أزمة النفايات كتعبير عن نظام زبالة، ويتفاعلون بين الضحك والجدّ مع حملة «طلعت ريحتكم» التي تشغل شبكات التواصل، لكنّ نزولهم إلى الشارع شيء آخر فله قضية واحدة تستحق وهي اشتغال «سنسور» التوتر الطائفي والمذهبي.
يخلص المتابعون إلى القول إنّ النظام الطائفي القائم على التقاسم الوظيفي للمال العام بين أركانه فوق الخلافات كنظام مالي عابر للطوائف لا يماثله شارع عابر للطوائف ولا يزال هذا النظام متحكماً بلعبة الشوارع يضعها في وجه بعضها البعض ساعة يشاء ويهدئ من غضبها وتوترها منعاً للانفجار ساعة يشاء، والقضية هي أمن النظام وليس أمن البلد.
النيابة العامة المالية تحركت فهل تكمل؟