لمملكة زنوبيا السلام… لسورية السلام

محمّد ح. الحاج

تتربّع تدمر الحديثة على منبسط من الأرض يحاذي سلسلة من المرتفعات الجبلية حيث تعلو قمة أحدها قلعة فخر الدين، وإلى جانبها آثار مملكة زنوبيا بما تحويه من كنوز وتحف فنية، كذلك تمتدّ واحتها كيلومترات تزيّنها أشجار النخيل والزيتون والرمان.

تجتاز الطريق المارة من تحت القلعة فتبدو لك تدمر على غير عادتها، ترتسم الكآبة على طرقاتها خطوطاً متعرّجة وحواجز وقد ترك الإرهاب الأسود بصماته في كل مكان، حتى البساتين لم تسلم، عشرات أشجار النخيل تهاوت أو احترقت وهي منتصبة القامة، والكثير من الأشجار تعرّضت لليباس بفعل العطش إذ سرق اللصوص مضخات المياه والمواسم، وحطموا أبواب المقابر القديمة التي تنتشر بين البساتين وسرقوا محتوياتها، وخرّبوها قبل أن يطردهم بواسل الجيش ليعيدوا الأمن والأمان إلى مدينة السياحة التي خلت من كل أثر للسياح، كما خلت من كثير من أبنائها الذين غادروها بسبب عوامل عديدة، منهم من غوى فانضم إلى العصابات، ومنهم من هوى إلى القاع بعدما غدر بأهله، ومنهم من هرب لينجو بنفسه، وبقيت الأغلبية محتسبة صامدة وقد وضعت ثقتها بمن هو قادر على حمايتها وحماية البلد حماة الديار .

الرحلة إلى عاصمة البادية محكومة بسلوك الطريق الوحيد المتبقي والذي يربطها بحمص وباقي المحافظات، فالطريق إلى دمشق خطيرة ومغلقة، وإلى دير الزور مقطوعة، وكثير من الطرق الفرعية يتحكم فيها المسلحون الذين يلجأون إلى الشعاف الصخرية والمغاور نهاراً، وينتشرون مثل الضباع ليلاً، يتقربون من الطرقات لاصطياد العابرين أو المزارعين الذين يجمعون محاصيلهم في البيارات والمناطق المحيطة بتدمر، وعلمت أن بعض الجماعات اختطفت مزارعاً مع شاحنته والغلال التي جناها من الحبوب، ويطالبون أهله بفدية تتجاوز خمسة ملايين ليرة، كما هددوا بقية المزارعين في المنطقة بحرق حقولهم إن لم يقدموا أربعين في المئة من غلالهم كضريبة، والامتناع عن تسليم المحاصيل للدولة، الطريق التي سلكناها آمنة تحت سيطرة بواسل الجيش وقوى الأمن ولمسافات بعيدة، وتقارب المئة وستين كيلومتراً، يسلكها طلاب الجامعة إلى حمص يومياً، وبعضهم يتابع إلى دمشق. وتتضاعف المسافة أكثر من ثلاثمئة وخمسين كيلومتراً، لا بد من احتمال مشقتها لكثير من المرضى وكبار السن الذين يقصدون دمشق، وتدمر مثل أخواتها من مدن الوطن نالها من الأذى الكثير، ويتساءل التدمريون: هل هي ثورة حقاً، أم تجمع للعصابات الخارجة على القانون؟ يعملون أيديهم في السلب والنهب وقطع الطرقات وإحراق الواحات والمحاصيل، ولأن تدمر عاصمة البادية، وتمتد باديتها إلى حدود العراق والأردن فهي مترامية الأطراف وعبر أراضيها خطوط أنابيب النفط والغاز، ولهذا أصبحت هدفاً للتخريب والاعتداء، وأصبح من يقف ضد هؤلاء هدفاً لهم، ورقص بعض هؤلاء الحثالة على جثامين الشهداء من رجال الأمن الذين كانوا يوفرون لتدمر الأمان ولزوارها من السيّاح الحماية والرعاية وقرأنا الكثير عن شهادات سيّاح زاروا تدمر وأشادوا في مقابلاتهم مع صحف عالمية تعنى بالسياحة عبر العالم بتلك المزية الرفيعة وأنهم تجوّلوا فيها ليلاً ونهاراً ولم يتعرّضوا لأيّ متاعب أو أذى ولم يفقدوا شيئاً من متاعهم أو تجهيزاتهم رغم تمضية بعضهم ليالي عديدة في العراء وضمن خيمة صغيرة.

تدمر الجميلة التي ما زالت عروس الصحراء، والتي خلّد التاريخ فيها مملكة زنوبيا المشهورة وعرشها بين جنبات آثارها، تدمر التي عشقها السيد الرئيس بشار الأسد وأعطاها من اهتمامه الكثير، وأمضى فيها أوقاتاً سعيدة حرص على الظهور بين أهلها كمواطن، مستخدماً دراجته الهوائية، ومتبادلاً الحديث مع كثيرين من أهلها، بعيداً عن الأضواء، مستفسراً عن حاجاتهم ومشاكلهم، وبشهادة من وجهاء العائلات، والعمال الفقراء، عمل على تحقيق مطالبهم ومطالب الطلاب، أحدثت فيها المعاهد وفروع الجامعة، ومؤسسات الرعاية وجميع الخدمات للبنية التحتية، تدمر التي لا يشكو فيها أحد الفقر، فثروتها طائلة وأهلها ميسورون وأصحاب نخوة وكرم، عاشت الاستحقاق الدستوري بفرح إذ أيقبل أهلها على ممارسة حقهم وأداء واجبهم في التعبير عن طموحاتهم لعودة الدولة السورية بحلتها الجديدة وعودة الأمن والأمان، عودة الزوار والمهرجانات التي افتقدتها على مدى سنوات، تدمر هذه طالها الأذى لكنها مثل أخواتها ستنتخب وتنتصر رغم التهديدات ورغم الحصار.

يدرك التدمريون أن عربان الخليج بأموالهم وحثالة من اشتروهم هم سبب الخراب والبلوى، ويعرفون هؤلاء منذ القدم، فالتدمري عندما يعيّر الآخر بسلوك مهين، أو يمارس العيب، مثلما ينعتون الطفل قليل التهذيب بأنه « عربي « ويعتبرونها شتيمة، التدمريّون سوريّون آراميّون يعتزّون بأصولهم، بانتمائهم، بوطنيتهم، بلغتهم التي سادت المنطقة المشرقية من بلاد الشام، كما يعتزون بشهدائهم عبر التاريخ، وبينهم الشهيد الملازم أول أسعد العمير الذي استشهد عام 1951 في اشتباك مع العدو اليهودي جنوب طبريا، وهذا الشهيد يحمل اسمه الشارع العريض في تدمر وغيره كثيرون.

يلفتك في تدمر نظام البناء الجميل، والشوارع المستقيمة وهي أقرب إلى مدينة القامشلي في ذلك، كما تلفتك النسبة الكبيرة من المثقفين، أطباء، مهندسين، علماء آثار، خريجي جامعات من مختلف الاختصاصات، وكثير منهم يتحدث عدة لغات، حتى من كبار السن، أما تجارها فمعتدلون، وتلمس فرق الأسعار رغم الضائقة الاقتصادية والحصار المفروض على الدولة، وانقطاع الموارد السياحية، إلّا أن ذلك لم يؤد إلى تأثير كبير ومعاناة كما في مناطق أخرى، فالمنتجات المحلية تحافظ على أسعار معتدلة، والمستوردة من مناطق الكيان لا تزيد على مثيلاتها في موقع الإنتاج رغم أعباء النقل والتكلفة. وتقول الغالبية: القناعة كنز، والربح القليل مبارك، ومعونة الفقراء واجب وهنا لا بد من الإشارة إلى التضامن والتكافل الاجتماعي الأهلي في المناسبات، في الأفراح والأتراح، وهذا ليس حصراً بأهل البلد بل مع الوافدين والنازحين والمهجرين، وربما كان لهذا الموقف بعض السلبيات إذ لا يسأل التدمريون عن الغريب القادم وقد نالهم الكثير من أذى البعض من هؤلاء.

تجسد تدمر سورية على امتدادها. هي نموذجها المصغر، أرضاً وشعباً، وقد تبرأ التدمريون ممن خرج على ناموس حياتهم، على أصالتهم وموروثهم الحضاري، سوريين كانوا، ويظلوا سوريين مع جميع أبناء الوطن في توجهاتهم، في طموحاتهم، في تصميمهم على النهوض والبناء لأجل سوريانا الجديدة العصية على الإرهاب والتبعية.

السلام لسورية، السلام لتدمر، والتحية لزنوبيا وحضارتها الراسخة عبر الأزمان.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى