من كتاب د. عادل سماره «ظلال يهو/صهيو/تروتسكية في المحافظية الجديدة» / تحالف ماديتين ـ التروتسكية واليهودية… بداياتٍ ورموزاً وفلسفةً وأدواراً (2)
تنشر «البناء» على حلقات أجزاء من كتاب د. عادل سماره «ظلال يهو/صهيو/تروتسكية في المحافظية الجديدة». والكتاب يتناول عناوين عدّة، أولاً: «نشوء المحافظية الجديدة ـ تواشج ليبرالي يهودي تروتسكي»، ثانياً: «التروتسكية وتفكّك الاتحاد السوفييتي»، ثالثاً: «نتنياهو نموذج لسياسة محافظة جديدة»، رابعاً: «التروتسكيون والربيع العربي»، خامساً: «التروتسكية وأميركا الجنوبية»، وسادساً: «الهند بين الغوارية الماوية، تواطؤ التروتسكية والإقرار الأوروبي بفساد سلطتها»، إضافةً إلى تمهيد ومقدمة.
وإذ تقوم «البناء» بنشر أجزاء من الكتاب، فلأنها تريد أن تساهم في تعميم حقيقة الارتباط القائم بين اليهودية العالمية وبين الإمبريالية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية. إضافةً إلى إظهار ناحية أساسية في هذا الارتباط وهو قيامه على قاعدة الرأسمال المعولم الذي وضع أسسه أمشيل ماير روتشيلد في الثلث الأول من القرن الثامن عشر، والذي جرى تأسيسه في العالم الجديد، أميركا، عبر مجمعات مالية ضخمة مثل مجموعة كوهين لوب ومجموعة م.م. واربورغ ومجموعات مورغان وسواها، وقبل ذلك بالسيطرة الروتشلدية التامة على مصارف أوروبا واستطراداً أميركا. يظهر الكاتب حقيقة الثالوث الجهنمي اليهودية ـ الصهيونية ـ التروتسكية، الثالوث الذي يتحكم بكثير من مفاصل السياسة الدولية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يعرض الكاتب في هذا الجزء من الكتاب بدايات تكوّن الحلقات الثقافية الأولى التي أسسها يهود، وما لبثت أن انتقلت للحوار في السياسة القومية في عهدي ريفان وجورج بوش الأب.
ويعود الكاتب ليلقي الضوء على اثنين من كبار ممثلي هذا التحالف وهما بول وولفوفيتز وفرنسيس فوكوياما ودورهما في تمكين المحافظية الجديدة من مفاصل السياسة والاجتماع الأميركيين، إضافةً إلى تأكيد البعد اليهودي في سلوكهم وخياراتهم السياسية.
لقد عرض الكاتب الأفكار الأساسية لهؤلاء المحافظين، وكذلك إلى مواقعهم في الإدارة الأميركية، وذلك لتأكيد رسوخ التحالف بين هاتين الماديتين.
البدايات العملية: اليهود والتروتسكيون في صلبها
يرد البعض الآخر بدايات المحافظية الجديدة إلى أواخر الستينات على شكل حلقات ثقافية محلية أكثر بدايتها يهودية ثم انتقلت للحوار في السياسة القومية في عهدي ريغان وجورج بوش. ويمكن ملاحظة أصولها في تناظر ملموس في عناصر يائسة من ضمنها التروتسكية والاشتراكية الأميركية والليبرالية الأميركية. وعليه فإن الكثير من المحافظين الجدد وليس الجميع بأي معنى كانوا داعمين للتنقيحية الجديدة «الإسرائيلية» وهذه العلاقة قلما كُشفت.
لقد ركَّب التنقيحيون الجدد نظرياتهم السياسية من العديد من النظريات ذات المشارب المتعددة ولكنهم صهروها جميعاً في المسألة الأساسية بالنسبة لهم وهي سيطرة الولايات المتحدة على العالم بالقوة المكشوفة. أي افكار شتراوس ألالن بلوم. ومن هنا يمكن فهم ذلك الدمج بين وجهة نظر الداروينية بجوهرها العرقي والتفوقي وبين الثورة الدائمة التي أساسها إنسانية ماركس والتي أخذها عنه تروتسكي ليتم تطويعها ضمن استراتيجية الولايات المتحدة في «ثورة السوق الدائمة» أي سوق عالمية في خدمة دولة الولايات المتحدة! السوق هي أولاً سوق، ثم هي على نطاق عالمي بينما قرار إدارتها وجني أرباحها حصراً لمصلحة الولايات المتحدة وحصرا أكثر شركات الرأسمالية في الولايات المتحدة وما يبقى هو حصة اقتصاد التساقط.
وفي حين أن التروتسكية هي الجناح «الماركسي» الأكثر تشدداً ضد القومية من حيث المبدأ، والزعم بأنها التيار الأكثر أمميةً، فإنها بعد خروج تروتسكي عاشت في كنف الولايات المتحدة كسلطة إمبريالية دموية. ولذا، لم تجد قياداتها حيفاً في تقديم الخدمات للولايات المتحدة التي اتخذت موقفاً قومياً متشدداً بعد الحرب العالمية الثانية.
هذا التوجه القومي العنصري في الولايات المتحدة والذي يجد جذوره لا شك في كونها مستوطنة بيضاء بتاريخ طويل من الارتفاع على جثث شعوب القارة الأميركية الشمالية إضافة إلى دورها في الحرب العالمية الثانية وتراجع الإمبرياليات الأوروبية المتعبة من الحرب أي ليس تعففاً عن الدم، هذا عزز لدى الولايات المتحدة نوعاً قومياً فاشياً تفوقياً هو في جوهره خدمة راس المال وطبقته مجسدة في شركاته.
وكان طبيعياً أن يتقاطع هذا مع تخليق الحركة الصهيونية «قومية» يهودية للمستوطنين اليهود في فلسطين. وإذا كانت الولايات المتحدة قد رأت في نفسها قبل ذلك الحين وخلاله وحتى اليوم بلداً استثنائيا على الصعيد العالمي، فإن الحركة الصهيونية قد رأت في نفسها قوة استثنائية في فلسطين تقتلع شعبها الأصلي بلا تردد.
«منذ فجر التاريخ اليهودي، شكلت العلاقة مع أرض «إسرائيل» المبدأ الذي ينص على أن وجود غير اليهود في البلاد هو أخلاقي وسياسي ليس ذا علاقة بالحق القومي لليهود في استيطان وامتلاك الأرض».
لا يختلف هذا التوجه الإبادي للشعب الفلسطيني عن إبادة الولايات المتحدة لشعوب أميركا الشمالية، وكما قام الكيان الصهيوني الأشكنازي على أن يبدأ ويستمر القوة الأقوى ضد المحيط العربي وحتى ضد كامل الشرق الأوسط، فإن الولايات المتحدة، وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، قد اتخذت التوجه نفسه وهو ما أكدته المحافظية بإصرارها على عدم بروز أي قوة موازية لأميركا باعتماد القوة العسكرية. وقد يفسر هذا التوجه تركيز الولايات المتحدة على التفوق العسكري والتسليحي الكينزية التسليحية بخاصة والجوي بشكل أكثر تخصيصاً. بل ليس صدفة هذا التخصص لأن مراكز الأبحاث فيها والخلايا الفكرية وشبكات التجسس من مواطنيها وعملائها من خارجها كانت تؤكد أن هناك أمماً في العالم تتسع طاقتها الإنتاجية ما يجعلها منافساً في السوق الدولية على مستوى السوق والاقتصاد طبعاً. وهذا ما أغرى السلطة في الولايات المتحدة باعتماد القوة العسكرية للحفاظ على حصتها «الكبيرة جداً» من السوق الدولية.
وبالطبع، كان لا بد لكل من الصهيونية والمحافظية الجديدة أن تركزا على مزاعمهما بوجود «الاستثنائية» الأميركية واليهودية/الصهيونية. وهذا ما وجد هوىً لدى قادة تروتسكيين وبخاصة من أصول يهودية حيث حولوا الاستثنائية الأممية إلى استثنائية قومية مسلحة وعدوانية بالضرورة والقطع! وهنا من المفيد التذكير بأن أطروحات التروتسكية عموماُ هي ضد القومية بشكل مبالغ فيه. فكيف يستقيم تورط تروتسكيين لمصلحة الاستثنائية القومية للولايات المتحدة و»استثنائية» قومية لليهود المستجلبين من مئة قومية، بينما يقف، وبخاصة، التروتسكيين العرب ضد القومية العربية بشكل استثنائي حيث دعموا احتلال العراق وليبيا ويستدعون الناتو لاحتلال سوريا وتقسيم هذه الدول جميعاً؟ راجع لاحقاً بيانهم ضد سوريا
كان لا بد للمحافظية الجديدة من استخدام الديمقراطية نظرياً وراسمالية السوق كمشروع عملي زاعمة أن هذا يخلق تغييراً حقيقياً في العالم. ولعل «التغيير الحقيقي للعالم» هو النافذة التي أغرت التروتسكيين الذين لم يروا، بأن هذا التغيير هو باتجاه وحدانية إيديولوجيا هي السوق الراسمالية تحت هيمنة «القومية الأميركية المتشددة والعنصرية.
كان الشغل الأساس لهذه الديمقراطية هو تحطيم المعسكر الاشتراكي. وهذا بالطبع كان أشد مغريات التواطؤ التروتسكي مع الإمبريالية وهو تواطؤ يمكن ردَّه إلى موْتورية أكثر منه إلى موقف سياسي عقائدي. ولكن في الوقت نفسه كانت الولايات المتحدة ولا تزال تحمي بملئ معنى الكلمة أنظمة حكم في العديد من بلدان العالم لم تسمع، بل وتمنع سماع أي حديث عن الديمقراطية والحريات.
وهذا يثير التساؤل: ما الذي يضع قيادات تروتسكية في بنية المحافظية الجديدة وهي ترى سياسات هذه الدولة التي كان المحافظون الجدد محركها الفكري ولاحقاً التنفيذي؟ هذا يسمح لنا بالتساؤل:
ترى، هل غير الصهيونية اليهودية هي التي تحكم حقيقة تفكير هؤلاء التروتسكيين؟
ربما كانت أكذوبة نهاية الصراع الإيديولوجي بعد تفكك المعسكر الاشتراكي هي من مغريات تساقط التروتسكيين لمصلحة سياسات المحافظين الجدد. وهي أكذوبة ساهمت فيها وسائل الإعلام على ضحالتها وبالتالي غطت على التحليل العميق والفكري لمسألة صراع الإيديولوجيات. فصارت تقارير الصحافي أشد تاثيراً من أطروحات المفكرين وهذا قاد إلى التلاعب بالوعي الجمعي للأمم.
وبالاعتقاد بنهاية عصر الإيديولوجيا، انخرط قادة من التروتسكيين في الإيديولوجيا المتبقية الوحيدة في العالم وهي السوق الراسمالية. وبما هي عالمية فقد تم التراكب بينها وبين «أمميتهم» فبدا التحالف طبيعياً!
وبالطبع، فإن الزعم بنهاية الإيديولوجيات قد رهن أو رُبط بتفكك الأنظمة الاشتراكية، في تغييب للحقيقة المركزية بأن الإيديولوجيا ليست شرطاً أن تموت بموت سلطة حاكمة.
بول وولفويتز نموذجاً للمحافظية واليهودية والتروتسكية واحتلال العراق
وهو يهودي من أصل بولوني ولد عام 1943، وقد هاجر والده جاكوب ولفويتز مع عائلته إلى نيويورك عندما كان عمره عشر سنوات، ثم نال الدكتوراه في الرياضيات من جامعة نيويورك، وصار واحداً من الخبراء الأميركيين في النظرية الإحصائية. وفي أثناء الحرب العالمية الثانية، قام جاكوب ولفويتز بدراسات لمصلحة الجيش الأميركي، وفي عام 1957 انتقلت العائلة إلى «إسرائيل»، بعد أن قبل جاكوب ولفويتز منصباً في جامعة «تخنيون الإسرائيلية».
أتم بول ولفويتز دراسته العليا بجامعة شيكاغو، وتأثر كثيراً بـ»ليو شتراوس» الأستاذ بجامعة شيكاغو وأحد اليهود الناجين من المحرقة النازية وهو المنظر الأساسي لتيار المحافظين الجدد كما أشرنا، وكان ولفويتز رفيقاً لجابوتنسكي الذي يعتبر المؤسس الفكري والأب الروحي لحزب الليكود.
وعندما استعاد العراق الكويت 2 آب 1990 كانت رؤية ولفويتز واضحة في أنه يجب استغلال هذه الفرصة لاكتساح العراق، ولكن خطته رفضت، وفي عام 1997 نشر مقالاً بعنوان «الولايات المتحدة والعراق» يدعو فيه إلى الإطاحة بالنظام السياسي في العراق، وفي عام 1998 نشر مقالاً بالمشاركة مع زلماي خليل زاد بعنوان «أطيحوا به» ويقصد نظام الرئيس صدام حسين، وقدم رؤية لمواجهة عسكرية بالتنسيق مع الشيعة والكرد في العراق، ويمكن برأيه لرائحة البترول أن تجذب الفرنسيين والروس لتأييد الخطة.
وعندما وصل حزب المحافظين إلى الحكم شرع فوراً بتطبيق خطة ولفويتز، وكانت أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 فرصة مناسبة لتطبيقها وبدعم مالي وسياسي وشعبي أسطوري، ونجح وولفويتز في دفع الولايات المتحدة إلى احتلال العراق وتدميره كما كان يحلم منذ السبعينات، ولكنه نجاح كان جوهرياً تدمير العراق عمرانياً واجتماعياً لمصلحة الطائفية وهزيمة للولايات المتحدة.
ما يلي تأكيد لهدف تدمير العراق على يد الإدارة الأميركية بقيادة المحافظين الجدد وبخاصة وولفويتز، فقد كتب مارك فيبر ما أكده السيناتور الأميركي إرنست هولينجز بأن هدف الحرب على العراق كان ضمان أمن الكيان الصهيوني عبر زعم أن ذلك يتم بدمقرطة المنطقة.
«بدأت بمقالة بترويسة «فشل سياسة بوش في الشرق الأوسط يخلق مزيداً من الإرهاب» والتي ظهرت في جريدة Charleston daily Post and Courier, May 6, 2004 :».
«وحيث أن العراق لا يشكل تهديداً، فلماذا غزو بلد ذي سيادة؟» والجواب: بأن سياسة الرئيس بوش هي أمن «إسرائيل» التي يقودها بول ووفويتز، وريتشارد بيرل وتشارلز كراوثهامر، فلسنوات عدة كانت هناك مدرسة تفكير تتقنع كدومينو بأن السبيل لضمان أمن «إسرائيل» هو فقط نشر الديمقراطية في المنطقة».
لعل البدء بأمن الكيان الصهيوني وحده كافٍ لفهم مدى عدائية الولايات المتحدة للأمة العربية بمعنى أنها مع حماية هذا الكيان على رغم أنه، بل لأنه يحتل فلسطين. أما ما هو أخطر بكثير من الموقف المعروف من جميع الإدارات الأميركية وهو ما يتضح من سياسات هذه الدولة في عهد أوباما عن الحزب الديمقراطي، ما هو أخطر هو أن العرب وبخاصة مثقفي الطابور السادس الثقافي، لا نقول الأنظمة والطبقات الحاكمة وبخاصة أنظمة الدين السياسي لأنها ليست في حسبان أي موقف قومي، ولا نقول قوى الدين السياسي لأنها تُخرج الجغرافيا، أي الوطن من حساباتها وتتلهف على السلطة وقيادة الناس، نعم خصوصاً مثقفي الطابور السادس الثقافي الذين احتفلوا باحتلال العراق زعماً منهم، كما الغُزاة الأمريكيين بأن الديمقراطية هي الحل!
وبالطبع، فإن الزعم من الولايات المتحدة بدمقرطة المنطقة هو لحماية الكيان وليس دمقرطة المنطقة، وهذا ما تمكن القليل من العرب من التقاطه قبل وخلال الغزو التدميري. أما مثقفو الطابور السادس هؤلاء، فبعد أن سال دم العراق بما لا يسمح ببقاء العراق عراقاً، أخذ البعض منهم في الزعم بأن هدف أميركا لم يكن الدمقرطة فأخذوا في البكاء على العراق الذي «قوّدوا» لاحتلاله. والمثير للشك بكل معانيه أن هؤلاء الذين يبكون تدمير العراق الذي أضحى أثراً بعد عين، يبكون في المقلب الآخر على أعتاب أميركا والصهياينة لاحتلال سورية من أجل «دمقرطة سورية»، بل ويشاركون في هدمها! قد تنفع هنا شطرة لمحمود درويش :»… يدعو لأندلسٍ إن حوصرت حلبُ» بتفسيرنا أنهم بدل أن يقفوا مع سورية يقفون في رأس الخيانة ضد سورية ويقرأون الفاتحة للعراق. لعل المصادفة أن حلب اليوم محاصرة!. إنهم هم وغيرهم يعودون إلى نفس الزعم تجاه سورية:
الوقوف في معسكر الثورة المضادة بقيادة الولايات المتحدة والكيان
من أجل نشر الديمقراطية بدءاً بدمقرطة سورية.
لا يتسع المجال للتوسعة هنا. لكن الدمقرطة التي غدت «قميص عثمان» في الوطن العربي، وبخاصة بعد تدهور الأنظمة قومية الاتجاه، فهي دمقرطة مقصود بها فقط الدول قومية الاتجاه، وليس أنظمة الريع النفطي التي تُجمع البشرية بأنها مجرد قواعد للناتو ومهاجع ومضاجع ونهم استهلاكي.
لا شك أن الطابور السادس الثقافي يدرك أن الشرط الأول للديمقرطية التي يزعمون كان متوافراً في دول الأنظمة قومية الاتجاه مصر العراق سورية والجزائر . ولذا تم تدميرها أو استكمال ذلك ما سنحت الفرصة. أي أن دول الريع النفطي هي بالمطلق خارج هذا الشرط، هذا ناهيك عن أن الشرط الثاني هو متوافر ببواكير في الدول قومية الاتجاه، وغائب بالمطلق في دول الريع النفطي .
ومن هنا، كان امتطاء الثورة المضادة لما يسمى الربيع العربي بعدوان متعدد الوجوه لسحق الدول قومية الاتجاه وليس لمصلحة أنظمة الريع بل على حسابها وبمواطنين منها ومن بلدان عربية وإسلامية أُخذوا بتعبئة ثقافية وهابية وسلفية من جهة، وبتمويل هائل ليتحولوا إلى الأداة الحالية للثورة المضادة ضد الأمة العربية خاصة.
ربما يؤكد هذا ما ذهبنا إليه في غير موضع من هذا البحث بأن المشاريع والسياسات التطبيقية الأساسية للمحافظين الجدد كانت هي العدوان ضد العرب ما يبين الجذر الصهيوني الذي يحركهم.
«ولفويتز خليفة كيسنغر في قيادة وتصميم السياسة الخارجية للولايات المتحدة، كان أحد الذين ساهموا في صياغة استراتيجية «التدخلات الوقائية والترهيبية» في مرحلة ما بعد كيسنغر، وربما كان المنظر الاستراتيجي الأول للمحافظين منذ منتصف السبعينات.
وشغل ولفويتز لفترات طويلة منصب عميد كلية العلاقات الدولية في معهد جون هوبكينز للدراسات الدولية المتقدمة في واشنطن، وشغل أيضاً في الحكم الديمقراطي مناصب مهمة، فقد كان بين عامي 1977-1980 مديراً للتخطيط السياسي في وزارة الدفاع، وواصل مشاركته في الإدارة الجمهورية مساعداً لوزير الخارجية لشؤون شرق آسيا والمحيط الهادئ بين عامي 1982-1986، وعمل بين عامي 1986-1989 سفيراً للولايات المتحدة الأميركية في إندونيسيا، وفي عهد جورج بوش الأب شغل منصب مساعد وزير الدفاع ديك تشيني للشؤون السياسية.
وفي عمله خبيراً في وزارة الدفاع كان يركز في احتمال تهديد حقول النفط في الخليج من قبل دولة إقليمية في المنطقة مثل العراق، وليس من قبل الاتحاد السوفياتي، واقترح عام 1976 إقامة قواعد عسكرية جديدة في منطقة الخليج العربي، وحذر من تنامي إيران والعراق كقوتين إقليميتين. ولعل ما قام به كارتر عام 1980 حيث شكل قوات التدخل السريع أو ما اسمي «عقيدة كارتر» له علاقة وتأثر بما طرحه وولفويتز نفسه.
وطرح ولفويتز عام 1992 نظاماً استراتيجيا أقر بالمشاركة مع ديك تشيني، وخبراء ومسؤولين مثل زلماي خليل زاد، وريتشارد بيرل، وأندرو مارشال، يقوم على ضرورة قيادة أميركية أحادية للعالم، ومنع ظهور أي قوة سياسية أو عسكرية منافسة للولايات المتحدة، وأن يكون حلفاؤها حلفاء ظرفيين وفقاً للصراعات بما في ذلك الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي.
فرنسيس فوكوياما: تأكيد تروتسكيتهم ويهوديتهم
لخص فوكوياما أربعة مبادئ أو خيوط مشتركة ميزت معظم هذه الأفكار المستنبطة من خلال نهاية الحرب الباردة: اهتمام بالديموقراطية وحقوق الإنسان، وبشكل أعم، السياسات الداخلية للدول الاعتقاد بأنه يمكن استخدام القوة الأميركية لأهداف أخلاقية التشكيك بقدرة القوانين والمؤسسات الدولية على حل المشاكل الأمنية الخطيرة وأخيراً، فكرة أن هندسة اجتماعية طموحة تؤدي غالباً إلى نتائج غير متوقعة وهي تقوض بذلك نتائجها الخاصة .
يضيف فوكوباما: «… باستعادة الماضي، لم يكن للأمور أن تتطور على هذا النحو. تمتد جذور المحافظية الجديدة إلى مجموعة استثنائية من المثقفين، شريحة واسعة منهم من اليهود، الذين مروا بال «سيتي كولج أوف نيويورك» سي سي أن واي من منتصف وأواخر الثلاثينات إلى أوائل أربعينات القرن الماضي. وتتضمن هذه المجموعة ايرفين كريستول ودانيال بيل وايرفينغ هو وناثان غلازير، وفي وقت لاحق بعض الشيء، دانييل باتريك موينيهان. رويت قصة هذه المجموعة في عدد من الأماكن، كان الأكثر شهرة منها فيلم وثائقي لجوزيف دورمان يدعى «ارغيوينع ذي وورلد». كان الإرث الأكثر أهمية في مجموعة سي سي أن واي اعتقاداً مثالياً بتقدم اجتماعي وعالمية الحقوق مقرونة بمعاداة شديدة للشيوعية».
خلال تورطه في تجميل المحافظية الجديدة وتمتعه بتفكك الكتلة الاشتراكية كتب فوكوياما: «ليس صدفة أن العديد من مجموعة سي سي أن واي بدأوا كتروتسكيين. كان ليون تروتسكي نفسه، بالطبع، شيوعياً، لكن أنصاره فهموا أفضل من أكثرية الناس الكليانية المطلقة للنظام الستاليني ووحشيته. تعاطف اليسار المعادي للشيوعية، على عكس اليمين الأميركي التقليدي، مع الأهداف الاجتماعية والاقتصادية للشيوعية، لكنهم بدأوا يدركون، في خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، أن «الاشتراكية الحقيقية الموجودة» أصبحت عبارة عن فظاعة من النتائج غير المقصودة التي قوضت بالكامل الأهداف المثالية التي اعتنقتها. وفي وقت لم يصبح جميع مفكري الـ سي سي أن واي محافظين جدداً، كان خطر النوايا الجيدة التي دفعت إلى نهاياتها، الفكرة الرئيسية التي ستشكل ركيزة عمل العديد من أعضاء هذه المجموعة.
المحافظية الجديدة
لكن فوكوياما انتقل من متفاخر بنهاية التاريخ إلى تخلي انتهازي:
كما أشرنا لأقوال فوكوياما المؤيدة تماماً للمحافظية الجديدة، نجده بعد تأزمها وقد زعم ابتعاده منها وتقديم تفسير لتداخل الليبرالية بالماركسية لينتج هؤلاء: «فسر العديد من الأشخاص كتابي «نهاية التاريخ والرجل الأخير» 1992 بأنه كتاب دعاية سياسية للمحافظية الجديدة باعتباره دافع عن الفكرة القائلة إن هناك توقاً عالمياً للحرية في جميع الناس سيؤدي بهم حتماً إلى الديموقراطية الليبرالية، وإننا نعيش وسط حركة تحول تتزايد سرعتها لمصلحة الديموقراطية الليبرالية تلك. إن ذلك يمثل قراءة خاطئة للنقاش. إن «نهاية التاريخ» في آخر المطاف، نقاش حول الحداثة. ما هو عالمي بالأساس ليس الرغبة بديموقراطية ليبرالية، وإنما الرغبة بالعيش في مجتمع حديث أي متقدم تكنولوجيا ومزدهر والتي، إذا ما أشبعت، تميل إلى تحفيز مطالب بالمشاركة السياسية. الديموقراطية الليبرالية هي إحدى النتائج الثانوية لعملية التحديث تلك، أمر يصبح تطلعاً عالمياً فقط في سياق الزمن التاريخي.
بعبارة أخرى، يقدم «نهاية التاريخ» نوعاً من الحجة الماركسية لوجود عملية طويلة الأمد للتحول الاجتماعي، لكنها عملية تنتهي بالديموقراطية الليبرالية بدلاً من الشيوعية. بحسب صياغة العالم كين جويت، كان موقف المحافظين الجدد، الذي أوضحه أشخاص مثل كريستول وكاغان، على العكس من ذلك، لينينيا اعتقدوا أنه يمكن دفع التاريخ إلى الأمام عبر الاستعمال الصائب للقوة والإرادة. كانت اللينينية مأساة في شكلها البولشيفي، وعادت كمسرحية هزلية عندما طبقتها الولايات المتحدة. لقد تطورت المحافظية الجديدة، كرمز سياسي وفكر، إلى شيء لم أعد قادراً على دعمه».
قد تكون القيمة الوحيدة في هذا الطرح هي وضع إصبعه على الشكل الهزلي لـ «لينينية التروتسكيين» المزعومة، والتي ولدت بالطبع التورط في أحضان الولايات المتحدة الساعية للسيطرة على العالم باسم الديمقراطية ولمصلحة أممية السوق. لعلهم هنا حالة غريبة من دمج النطرية وتلويثها بأكاذيب الليبرالية الجديدة المتوحشة. لعل فوكوياما في حديثه هذا عن مأساة اللينينية في شكلها البلشفي استبطان غير واع لتهكمات تروتسكي على لينين.
وعلى رغم محاولاته التنصل من المحافظية الجديدة بعد تأزماتها، فإن فوكوياما في كتابه «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» قال بأن الصراع الإيديولوجي انتهى، وبأن الصراعات المقبلة ستكون على ما هي افضل طرق هيمنة اللبرالية الراسمالية والحصول على أكبر حصة من الكعكة». لقد أغلق تطور التاريخ كما لو كان سادنه!
المحافظون الجدد امتداد مباشر لتروتسكي
يدين بيرمان للتروتسكي سي.إل.آر جيمس بتاثير كبير. ومن بين المحافظين الجدد فإن نظير بيرمان هو ستيفن شفارتز، المؤرخ الذي كتابه الجديد «وجهي الإسلام»، هو نص مفتاحي لأولئك الذين يريدون من الولايات المتحدة أن تقطع علاقاتها بالسعودية. لقد أمضى شفارتز سني حياته المفضلة في مجموعة تروتسكية إسبانية. وحتى اليوم، يتحدث شفارتس عن تاثير تروتسكي ويسميه «الختيار» ل.د أول حرفين من دافيدوفيتش برونشتاين، ويقول: «إلى درجة كبيرة، ما زلت أعتبر نفسي أحد تلامذة تروتسكي»، ويعترف ويلاحظ أنه في دوائر محددة في واشنطن، فإن شبح تروتسكي لا يزال يحوم هناك. وفي حفلة في شباط احتفالاً بصدور كتاب عن العراق تبادل شفارتز دردشة مع بول وولففتز عن تروتسكي، ومحاكم موسكو وماكس شختمان». يقول شفارتز: «لقد تحدثت مع وولففتز حول كل هذا، شمل حديثنا شختمان. فهو يعرف هذا كله، ولكنه لم يكن أبداً جزءاً منه. ومن الواضح أنه كان متنبهاً. التلاقي كان بين وولففتز وتروتسكي يبدو غريباً ومثيراً، لكن تاريخاً طويلاً ومحرفاً يبين العلاقة بين يسار البلاشفة واليمين الديمقراطي. ولنفهم كيف أن بعض التروتسكيين انتهوا إلى مدافعين عن توسع الولايات المتحدة، من المهم أن نعرف شيئاً ما عن ماكس شختمان. أن مسيرة حياة حواري تروتسكي الأميركي المثير للجدل شختمان يقدم الشرح والدليل على المسار الذي حمل أناساً من المعارضة اليسارية لدعم البنتاغون… فمع حلول سبعينات القرن العشرين كان شختمان داعماً لحرب فيتنام وبموقف متشدد ضد الشيوعيين الديمقراطين مثل السيناتور هنري جاكسون. كان لدى شختمان فريق من الشباب الأتباع يسمون الشختمانيون نشطاء في اتحادات العمال ولهم فريق غطاء يعرف بالديمقراطيين الاجتماعيين. وحينما بدأ الشختمانيون يعملون لمصلحة السناتور جاكسون أقاموا علاقات مزيفة وقوية مع لبيراليين متشددين في الحرب الباردة والذين كذلك نصحوا جاكسون، بمن فيهم ريتشارد بيرل وبول وولفتز، وهذان الاثنان لهما صلة أخرى بالتروتسكية، وكان منظرهم ألبرت وولستر، مثقف دفاع كان شختمانياً في أواخر الأربعينات، أما شختمان فمات عام 1972، ولكن أتباعه برزوا في مراتب الحركة العمالية وبيروقراطية الحكومة. ونظراً إلى معاركهم الطويلة ضد «الستالينية» كان الشختمانيون بارعين في الاستقطاب لتجديد النضال ضد الشيوعيين السوفيات الذي بدأ بقوة بعد حرب فيتنام. وخلال السبعينات فإن المثقفين المشبعين بتقاليد شختمان قد ملأوا صفحات مطبوعات المحافظين. وعليه، ففي الثمانينات وجد الكثير من الديمقراطيين الاجتماعيين أنفسهم يعملون في إدارة ريغان، وبخاصة جين كيركباتريك التي كانت سفيرة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة ، وإليوت إبرامز الذي شغل سكرتير مساعد للدولة والذي كان متلطخاً بتورطه في فضيحة إيران-كونترا».
ليست يهودية بحتة وليس ذلك ضرورياً
قد يميل البعض إلى وصف المحافظية الجديدة بأنها ظاهرة يهودية. وقد يساعدهم في ذلك أن كثيراً من مؤسسيها هم من التروتسكيين اليهود وبالطبع كالقيادة الصهيونية في الكيان معظمهم من الإشكيناز. لننظر ما يلي:
«وفي حين أن معظم المحافظين الجدد المعروفين غالباً يهود، ولكن من المهم الذكر، لما هو مهمل تماماً بأن كثير ممن ينتمون حقاً إلى الحركة ليسوا يهوداً. مثلاً، مُوقِّعو بيان «رسالة إلى الرئيس» عام 1998 المدافعون عن وجوب عمل أقوى ضد العراق، وهو يعتبر عموماً بيان المحافظين الجدد، والذي يتضمن تمثيل التيار السائد للرموز العامة فإن 23 من 40 من الموقعين ليسوا يهوداً، طبقا لتقديرنا. متوفر على http://.iraqwatch.org/perspectives/rumsfeld-openletter.htm».
لعل ما يهمنا في هذا البحث ليس عدد اليهود بل قرار المحافظين الجدد الرئيسي بتدمير العراق. وهذا نفسه الذي يفتح على المسألة الأساس وهي أن يهود وتروتسكيي المحافظين الجدد هم محرك العدوان على الدول العربية التي تشكل خط دفاع ضد الكيان الصهيوني. فالمحافظية الجديدة، وإن كانت يمينية جداً داخل أميركا، إلا أن سياساتها الاقتصادية ليست بعيدة في يمينيتها من سياسات الديمقراطيين. ما نقصده أن السمة الأساس للمحافظية الجديدة هي في سياساتها العدوانية خارجياً وبخاصة ضد العرب، وهذا ينتهي بالتخطيط أو النتائج لمصلحة الكيان الصهيوني.
«وثيقة كلين بريك التي أرسلت إلى نتنياهو لضمان أمن المملكة، تقرير أعد 1996 من قبل معهد السياسات والاستراتيجيات المتقدمة «مجموعة دراسة لسياسة «إسرائيلية» حتى عام 2000» وقعها ريتشارد بيرل ودوغلاس فيث وديفيد ورمسر، وميراف ورمسر وجميعهم مع سياسة يمينية «إسرائيلية» يمينية جداً. ليس المهم أن أكثريتها يهوداً أم لا، تروتسكيين أم لا. لكن نسبة كبيرة من الوجود القوي وربما المحرك الأساس هم من اليهود والتروتسكيين اليهود كذلك. ومع ذلك فإن قراءة هذه الظاهرة لا بد أن تركز على بعدين:
الأول: أن هذه الظاهرة هي وليدة رأسمالية المركز المتأخرة. إنها الشركاتية المجمعين المدني والعسكري .
والثاني: إن مشاريعها التطبيقية سياسياً وعدوانياً، بعد الاقتصاد والسوق، هي تدمير الأنظمة العربية ذات التوجه القومي. العراق، ليبيا، سورية، اليمن…الخ .
إن الظاهرة نفسها هي ظاهرة من ظواهر أو تمظهرات الرأسمالية المتأخرة وبخاصة في لحظة مأزوميتها. لذا ليس غريباً أن يترافق نشاطها مع بداية الستينات حيث الأزمة الاقتصادية العميقة ولكن الناعمة التي تمظهرت في تدني معدل الربح والفشل في معالجته ومن ثم استمراره. وبالطبع، فإن سقوط المعسكر الاشتراكي قد أعطى المحافظية الجديدة دفعة قوة معنوية وهيبة سيطرة، ولكن هذا لم يحل المشكلة الاقتصادية في المركز عموماً.
بعبارة أخرى، فإن المحافظية الجديدة هي عملية تراكب بين مصالح الطبقة الرأسمالية الحاكمة في الولايات المتحدة كطبعة راسمالية متوحشة تتشابه إلى حد التطابق مع النازية والفاشية سواء في فكر التفوق وإخضاع البشرية أو في صدمة المرحلة اي الأزمة الاقتصادية. هذا الأساس الراسمالي اللبرالي الجديد للمحافظية الجديدة هو الذي ولَّد عنصرية عرقية بيضاء وعنصرية إيديولوجية صهيونية مرتبطة بعمق ثقافي مع التراث السياسي والاجتماعي والطبقي للبرجوازية اليهودية.