«تجريدات لتاريخنا الغائب»… معرضاً للفنّان العراقي علي شاكر النعمة

لمى نوّام

نشأ الفنان العراقي علي شاكر النعمة في كنف عائلة تعشق الفن والجمال، فأصبح منذ طفولته على تماس مباشر ومتواصل مع مناخ إبداعي، بدءاً بجزئيات إنتاج العمل الفني من مواد وتقنيات وأساليب. ما حفّزه وهيّأه نفسياً لولوج هذا العالم الواسع.

والده الفنان الراحل شاكر نعمة، واستوفى دراسته فنّ النحت في إيطاليا 1973 ، وكان شغوفاً بالمسرح، فأدّى عدداً من الأدوار المسرحية في مدينة بابل، وفي ما بعد، أسس نقابة الفنانين فيها مع مجموعة من فناني المحافظة.

المكتبة الغنية بالمصادر والمراجع الفنية التي حرص والده على متابعتها وجمعها للاطلاع على مستجدات الحراك الإبداعي المتواصل، أفادت علي كثيراً في إغناء مخزونه البصري والفكري، وذلك بعد اطّلاعه على تجارب فنانين مهمين عالمياً، في فترة لم تكن فيها وسائل التداول الثقافي ميسّرة كما في وقتنا الحاضر.

«تجريدات لتاريخنا الغائب»، هو عنوان معرضه علي شاكر النعمة الشخصي الثاني، الذي أقامه الأربعاء الماضي في المركز الثقافي العراقي في بيروت، والذي تضمّن 13 عملاً فنياً بأحجام كبيرة، نُفّذت بمواد مختلفة على «الكانفاس».

يقول الفنان علي شاكر النعمة لـ«البناء» إنّه حاول من خلال هذه المجموعة الاشتغال على منطقة الشكل الخالص الذي يقترب من العمارة والموسيقى على حدّ سواء، على رغم التناقض الحاد بين هذين الجنسين من الفنون، نظراً إلى بنيتيهما التكوينية، وإلزامات تشييد النصّ الإبداعي فيهما. فالعمارة تفرض المادة وقوانينها، وعلى المصمّم المعماري أن يراعي إرادة المادة التي تحدّ من رؤية الفنان. بينما نجد أن قوانين الموسيقى ترتبط بالزمن دون المادة. بمعنى، أنه حاول الاشتغال على التداخل المفاهيمي وما يشرح من خلاله من مقاربة فكرية وتقنية من خلال تبنّي أساسيات الكتلة والفضاء في العمارة، والوحدات والفترات التي تشكّل بنية الايقاع الموسيقي وتقنياتها في العزف المنفرد الصولو والباكراوند.

ويضيف النعمة: لذا، تتّسم أعمالي بتبنّي هذه المفاهيم لتكوين رؤية متفرّدة شكلاً ومضموناً، لتقترب من الموسيقى تارة، ومن العمارة طوراً،. وما يمكن استشفافه من حالة التأمل والاسترسال لدى قراءة أعمالي، وجود طاقة وجدانية تلقي بظلالها على صياغات الأشكال بعناصرها المختلفة، تحمل في ثناياها تأملات الذاتيّ عن الموضوعي المعاش، وتداعيات الواقع المرير والمآسي الإنسانية التي يشهدها العالم المعاصر، وما تشهده الساحة العراقية من أحداث تفوق الوصف في مدى الدمار، وانتهاك حرمة الدم. فلقد ارتأيت التعبير عن الاحداث الهائلة والفاجعة عن طريق حدس الصورة المتخيلة الأقرب توصيفاً لماهية الحقيقة الجوهرية، والتي تتماسّ بشكّ مباشر مع وجدان المتلقي لتُحدث صدمة موازية لتلك التي تولدت من فعل التعايش والتأمل. لذا، يمكن القول إنّ أعمالي تجسيد حقيقي واقعي لجوهر الموضوعيّ من خلال الشكل والعاطفة غير المقترنة بضرورات التطابق الموضوعيّ فكرياً ومادياً.

ويؤكّد النعمة: تجربتي الفنية زمنياً تبدأ من مشاركاتي الفنية الأولى في معارض في الداخل والخارج. ولكنني إذا أردت تصنيف أسلوبي، فأنا أميل إلى التجريدية، على أنّ ذلك لا يعني تقوقعي وانصياعي الكامل لمقولاتها الفكرية العميقة. إذ أناور كثيراً في الحراك بين مستويات التجريد لابتكار تقنيات وأدوات تمكّنني من إبداع تشكّلات جماليّة تتّسم بأصالتها من جهة، وتتناسب مع تراكم الخبرة وغنى التجربة البصرية بالمشاهدة، وتعرف حقائق جديدة بفعل التأمل، واقتراح أساليب أكثر ملاءمة في تمثل الموضوعيّ ثمّ تجسيده.

ويتابع: يتمخّض عن فعل الاشتباك بين عناصر الشكل على مسرح الحدث وبين الصور المتخيلة، تجلّ محسوس كما عرّفه هيغل، أنّ الجميل هو التجلّي المحسوس للفكرة. وفي أعمالي أحاول التركيز على مفاهيم تنسجم والفكرة العامة، تأخذ حيز الاهتمام الأكبر منذ اللحظة الاولى للشروع في العمل، ولا أعوّل كثيراً على طاقة اللون وحيويته في إغناء الخطاب البصري الحسي وإشباعه، إذ أحاول دفع فعل التلقي لعملي إلى منطقة تتخطى التذوّق. لذا، يجد المتلقي زهداً واضحاً في استخدام اللون في أعمالي، فهي تنزع نحو التصوّف الذي لمّحت إليه من قبل الفنون الاسلامية بطابعها الروحي المتقشّف إيماناً بعقيدة دينية تجعل من محاكاة الذات الإلهية غاية، فتبتعد قدر الإمكان عن عوالق المادة من أن تنفذ إلى العمل. ولذلك فلسفته الخاصة، ولكن المبدأ العام هو اقتران الروحيّ الأثيريّ باللاماديّ. وعليه، وبما أن منطقة اشتغالي تتوخّى موضوعات كونية عامة، كان لزاماً عليّ وكضرورة تفرضها عملية تجسيد اللامرئي، أن ألجأ إلى العناصر الشكلية الأكثر ابتعاداً عن القرائن المادية المحسوسة، أو حتى الأفكار القبلية المنطقية الراكزة عقلياً، وهذا أحد محاور الارتكاز الاساسية التي أقرّتها التجريدية على المستوى الغنائي كما في أعمال كاندنسكي وبحثه الشكلاني الخالص، على رغم تفعيله طاقة اللون في بعض أعماله، أو المستوى الهندسي الثيوصوفي في أعمال موندريان القائم على مبدأ الاكتفاء بالعناصر الأولية أو الأساسية لتضمن لنفسها الكمال المتشكل من مكوّنات مادية مشتقّة دونما تحريف عن الواقع. أو بالمستوى التفوّقي كما في أعمال ماليفتش ذي الخطاب السيميائي المفتوح على باب رحب للتأويل.

ويتابع النعمة: ما أريد قوله هنا إن العمل الفني الذي أشعر بأنه ذو طابع عصري، هو ما ينفتح على أبواب التأويل، إذ أسلّم بحقيقة أُثبتت ولا تزال تثبت صحتها من أن الفن لغة إنسانية عالمية، ولكي يرتقي العمل إلى هذا المستوى المتفجر والمتشظي من القراءات وآلياتها المتوالدة والمتجددة، يجب أن تكون التقنيات الأدائية والمواد والأفكار قبل كّل شي مبتكرة ليتّسم المنتج بقدرته على الإدهاش وإحداث الصدمة لدى المتلقي.

وهذا ما توسّمته وتابعته في منجزات فنية إبداعية كثيرة، متّسمة بالأصالة ولها مرجعيتها الفكرية وتنظيراتها الجمالية وفلسفتها الخاصة التي استشهد بأحد رموزها على سبيل التوضيح لا الحصر: أعمال الفنان الكبير شاكر حسن آل سعيد ذات الأبعاد المفاهيمية في تناوله موضوع الجدران العتيقة المنسية، إذ يتحوّل المرئي الجدار إلى نافذة نطلّ من خلالها على تأويلات لا حصر لها. وهذا ما أصبو إليه في مُنجزي.

الموضوعات التي يُعالجها علي شاكر النعمة تتميّز بالكليانية والشمولية، إذ تسمو على الجزئيات لتعالج موضوعات كونية لا سبيل لتصنيفيها الحسّي أو العقلي المعوّل عليهما عند تشييد خطاب موجّه نحو موضوع بعينه، أو يتبنى قضية جزئية من الموضوعي. فالتعبير في أعماله يتعامل مع الأفكار المستنبطة من الواقع لا من الواقع كمظاهر مادية محسوسة أو مدركة، إذ إن للذات المؤلفة للنص الإبداعي أو المتلقي ذاته أيضا، ملكات أعمق من الحواس والثوابت العقلية المنطقية الخاضعة للتقنين. فهناك الحدس والمخيلة اللذان يشكلان مرجعية الذات للفنان والمتلقي على حدّ سواء.

علي شاكر النعمة، فنان تشكيليّ من مواليد بابل/الحلة 1972، حاصل على شهادة الدكتوراه فلسفة الفنّ الحديث، عضو نقابة وجمعية التشكيليين العراقيين، ولديه مشاركات فنية داخل العراق وخارجه، حاز على جائزة الرسم الحرّ لشباب العراق عام 1993. وأقام معرضاً شخصياً في الجزائر ـ جامعة الهواري بومدين عام 2001، ومعرضاً مشتركا في المركز الثقافي العراقي ـ بيروت، ومعرضاً مشتركاً في قاعة الشرقية ـ الرياض ـ السعودية، وشارك في سمبوزيوم مدينة ساليرنو ـ إيطاليا، في معرض مدينة باري ـ إيطاليا عام 2013، وفي معرض «تراتيل بابلية» الذي نظّمته «مؤسّسة العويس الثقافية» في دبي، وحالياً، ينظّم معرضه الشخصيّ الثاني «تجريدات» في المركز الثقافي العراقي ـ بيروت، ويعمل أستاذاً في كلّية الفنون الجميلة ـ جامعة بابل.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى