آخر الكلام جريمة هيروشيما ـ نكازاكي ـ تَجَسُّد اللاوعيِ
د. نسيب أبو ضرغم
الولايات المتحدة الأميركية التي سقطت من عالم الإنسانية الأدبي قبل أن تخرج إلى العالم ما ترسب في لاوعيها من أدران ووحشية ونازية أصيلة، ظهرت إزاءها نازية هتلر كاريكاتورية. هذه الولايات المتحدة، التي إحدى سماتها الفجور السياسي والأخلاقي، يمر عليها في كل عام تاريخان، هما السادس والتاسع من آب، وكأن شيئاً لم يحصل، وكأنها لم تخطف السيف من يد الشيطان وتقطع عنق شعب اليابان، في وقت وقف الله مذهولاً.
يقول مدير مشروع مانهاتن ليسلي غروفر، المشروع الذي قام بتطوير القنبلة الذرية الأميركية في شهادته أمام مجلس الشيوخ بأن الموت بالإشعاع الذري العالمي المنسوب إنما هو «موت لا ينتج عذاباً كبيراً» بل هو «طريقة سعيدة للموت».
بلى، وفي كل هذا الفجور، ومن أعلى منبر سياسي- قومي في الولايات المتحدة، مجلس الشيوخ، يقف الجنرال المسؤول عن صناعة الموت المرعب، ليطمئن شيوخ أميركا والعالم أن المذاب جسده والمُشعلة روحه بفعل القصف النووي لا يتعذب، وكأنه يقول أن أميركا قد قدمت للإنسانية خدمة عظيمة وهي «طريقة سعيدة للموت». أصبح الموت بفضل «الإنسانية» الأميركية أمراً يولد سعادة.
ما نطق به الجنرال المجرم، ليس نتاج ذهنية ونفسية هذا الرجل فقط، إنما هو أمر أساسي منطوٍ في اللاوعي الأميركي، جذوره في أول طلقة رصاصة أطلقها مغتصب أبيض على هندي أحمر. جذوره في إبادة ما يزيد عن خمسة عشر مليوناً من الهنود الحمر بدم بارد وبوحشية تخجل منها وحوش الغابات.
هل ما فاه به ذاك الجنرال «النازي بامتياز»، يختلف عما يفكر به رئيس الولايات المتحدة الأميركية آنذاك هاري ترومان؟ وهل ما يفكر به هذان المسؤولان يختلف عما يفكر به أعضاء الكونغرس الأميركي؟ لو كان بين أعضاء الكونغرس من هو على غير أخلاق هؤلاء الوحوش، لطالب برمي الجنرال ليسلي غروفر خارجاً، مقدمةً لمحاكمته ومحاكمة رؤوسائه، ولكن هذا لم يحصل. والسؤال، لماذا لم يحصل ذلك، لماذا لم تظهر حالة عذاب ضمير إزاء المجاميع الشعبية، إنقاذاً لشرق الدولة التي تدعي أبوةً لحقوق الإنسان والحريات. ما كان في اللاوعي، خرج ليصبح في الوعي الأميركي والبشري العام فعلاً تاريخياً هو العار الذي سيلاحق الإنسانية والأميركيين بشكل خاص إلى آخر الدنيا.
إن نهج أميركا تجاه اليابان، أليس هو عينه في دعم «إسرائيل» المطلق في عملية إبادة شعبنا بشراً وحضارةً، تاريخاً ومستقبلاً.
إن ترومان ضرب بالقنبلة الذرية، وغيره من رؤوساء أميركا يضربون شعبنا بقنبلتين، الأولى ذرية تحضرها «إسرائيل» لساعة الصفر في مفاعل ديمونا، والثانية، يهودية مستقوية بكل الدعم الأميركي الذي يترجم النفسية العائدة لحكام أميركا ونخبها. والأمران في النهاية واحد.
كلهم ترومان، وكلنا شعب هيروشيما ونكازاكي كلهم مهاجرون بيض، وكلنا هنود حمر
ترومان الأميركي، لديه ترومان وكيل، نتنياهو ومن سبقه ومن سيأتي بعده، والمهاجرون البيض لديهم مهاجرون ملونون، هم طلائعهم في بلادنا، اليهود…
إن المعركة واحدة، والعدو واحد وليس بين المتحاربين من لغة تصلح إلا لغة الحرب.
عندما أعلن سعادة في عشرينات القرن الماضي أن الولايات المتحدة الأميركية قد سقطت من عالم الإنسانية الأدبي، كان يصيب كبد الحقيقة، وهذا السقوط الذي أشار إليه سعادة في العشرينات من القرن العشرين، أكدته الولايات المتحدة، بجريمتيها في هيروشيما ونكازاكي، وفي دعمها الفاجر لدولة الاغتصاب اليهودي.
كان من الواجب، أن تجتاح شوارعنا حشود باتجاه سفارتين: حشد غاضب لاعن باتجاه سفارة الديناصور الأميركي، وحشد آخر باتجاه سفارة اليابان، ليقدم للشعب الياباني تعاطفه معه في ذكرى مؤلمة، هي في الحقيقة طالت الشعب الياباني فيزيائياً واستطراداً نفسياً بالدرجة الأولى، لكنها كانت تمثل اعتداء على الإنسانية برمتها.
كان اليابان على وشك الاستسلام، فلماذا استعمال السلاح الذري مرتين؟! هل الرسالة إلى موسكو كانت ضرورية لتكون بهذا الشكل، أم أن الوحش لا يرتوي إلا بشرب كأسه حتى الثمالة.
هل الرغبة في إعلان سبق أميركا بصناعة القنبلة الذرية في مواجهة الروس، كان ضرورياً لإبادة نصف مليون إنسان بدقائق، واستمرار المفاعيل الجسدية والنفسية تطاول عشرات الآلاف حتى اليوم.
مَن معلم من، ترومان أم هتلر.
ماذا فعل هتلر من وحشية وهو وحش حقيقي أكثر مما فعل ترومان، وما يفعله اليهود، ألا يكفي حرق أسرة الدوابشة؟ ليكون هؤلاء المجرمون أساتذة لهتلر.
ألا يستحق الأمر من المجتمع الأهلي الأميركي، ولمناسبة هذه الجريمة، إعادة البحث بملابساتها وصولاً إلى مقاضاة مرتكبيها، أقله على المستوى الأخلاقي، بدءاً من ترومان حتى آخر مسؤول قام بتنفيذ الجريمة.
ألا يستحق الأمر، أن يعرض الموضوع على المرجعيات الدولية ذات الصلة، لقول كلمتها إنقاذاً لأميركا أولاً وللإنسانية ثانياً من «تشريع» الجريمة وكأنها عمل قومي بامتياز.
هل ما قام به الرئيس الصربي ميلوزفينش يوازي عشر ما قام به ترومان، ولماذا لم يحاكم حتى أخلاقياً؟
ماذا فعل عمر البشير بالنسبة لما فعله ترومان، وهناك مذكرة جلب دولية بحقه؟
إن إزالة العار الذي ألحقه الرئيس ترومان نازي أميركا بحق الإنسانية وبحق الشعب الياباني، تقع في الدرجة الأولى على عاتق الشعب الأميركي، وبالتالي على عاتق الشعوب كافة والمحافل الدولية المختصة.
إنها أميركا، في وعيها ولا وعيها، عدوانية مغتصبة، صديقة كل عدواني وكل مغتصب وعدوة بالفطرة للشعوب.
إن اليابان، الدولة العظيمة، كانت عظمتها في أنها وقفت على قدميها، وها هي الآن في قلب أميركا اقتصاداً ومالاً، على رغم هيروشيما ونكازاكي. فلتتعلم الشعوب!