أين أصل الصراع على قيادة الجيش؟

العميد د. أمين محمد حطيط

في ظل الصراع السياسي المحتدم حالياً في لبنان بين «مشروع لبنان المستعمرة السعودية الأميركية»، و«مشروع لبنان السيادي المستقل» ادخل الجيش اللبناني من باب تعيين قائد الجيش وبقية أعضاء المجلس العسكري مادة سجالية أو ملفاً خلافياً من غير أن يكون هناك أي مبرر لهذا الأمر.

وعودة إلى أصل المشكلة نجد انه في عام 2013 وقبل أشهر من بلوغ قائد الجيش الحالي سن التقاعد وفقاً لقانون الدفاع الوطني، أقدم وزير الدفاع في الحكومة المستقيلة يومها، على تأجيل تسريح القائد لمدة سنتين بذريعة العجز عن تعيين قائد جديد من قبل حكومة مستقيلة، ورفض إبقاء مركز القيادة الذي يشغله عرفاً ضابط ماروني، شاغراً أو تركه لرئيس الأركان الدرزي أو للضابط الأقدم رتبة السني. وقد لاقى يومها هذا التدبير قبولاً عند البعض وامتعاضاً عند الآخر وقلة من المعنيين جاهرت برفضه لكنها عادت وصاغت مواقفها على أساس القبول بالأمر الواقع.

واليوم وفي ظل الشغور الرئاسي وتعطل العمل التشريعي في مجلس النواب بذرائع شتى، طرحت مجدداً القضية ذاتها بعد انصرام مدة تأجيل تسريح قائد الجيش، وطرحت ظاهراً حلول ثلاثة: الأول وهو القانوني والمنطقي ويتضمن تعيين قائد جديد للجيش من قبل الحكومة القائمة حالياً بأعمال رئيس الجمهورية بالتكليف، والثاني العودة مجدداً إلى تأجيل التسريح لاستنفاد الحد الأقصى للخدمة الفعلية لقائد الجيش 44 سنة تنتهي في تشرين الأول 2017 باعتباره تطوع في الجيش في تشرين الأول 1973 والثالث رفع سن التقاعد لجميع ضباط الجيش لمدة 3 سنوات وعندها يستفيد القائد الحالي من التعديل ويكون بإمكانه البقاء في منصبه حتى 20 أيلول 2016.

وفي التطبيق، أظهر وزير الدفاع وتالياً الحكومة عدم الرغبة في التعيين، حيث طرح الأمر في مجلس الوزراء بشيء من الاستخفاف وعدم الجدية، أكدها حجم أعداد الضباط الذين طرحهم وزير الدفاع من دون اقتراح اسم معين منهم لقيادة الجيش أو رئاسة الأركان أو الأمانة العامة للمجلس الأعلى للدفاع، وإغفاله كلياً طرح إملاء المراكز الشاغرة الأخرى في المجلس العسكري وعددها ثلاثة وهي تنتظر تعيين من يشغلها منذ العام 2013.

وبهذا السلوك استنفد الخيار الأول ليبقى إما تأجيل التسريح أو تعديل القانون برفع سن التقاعد. وقد سارع وزير الدفاع إلى إجراء التأجيل مدفوعاً بضغط سياسي مركب ومعقد لا يخلو من نزعة تصفية الحسابات السياسية ضد العماد عون. وفي الوقت ذاته أظهر الفريق العامل من أجل التعديل إصراراً على متابعة المحاولة مع التسليم بأن التأجيل بات أمراً واقعاً يجب التعامل معه ولكن مع الأمل أيضاً باستيعاب مفاعيل هذا التمديد بطريقة لبقة يتضمنها التعديل.

لقد اختلف الفرقاء في تفسير تصرف وزير الدفاع فكان تفسير ظاهر يدعي بأن تأجيل تسريح قائد الجيش جاء لتجنب مخاطر شغور مركز القيادة في وقت حرج في ظل العجز عن التعيين الذي يتطلب وفاقاً سياسياً مفقوداً لا يؤمل تحققه في المدى المنظور، في مقابل تفسير باطن مضمر يقول إن المسارعة إلى التأجيل قبل 50 يوماً من حلول الأجل إنما يقصد منه قطع الطريق على تعيين أحد أهم الضباط وأكثرهم كفاءة لتولي المنصب بسبب مصاهرته للعماد عون الذي يتعرض هو وتياره والحالة السياسية المسيحية والوطنية التي يمثلها، لحملة تهميش واجتثاث ممنهج لمعاقبته على سياسته منذ العام 1988 وحتى اليوم، وهي سياسة كانت وما زالت تشكل بالنسبة للمشروع السعودي عنصر إزعاج وصوتاً نشازاً في أوركسترا الهيمنة والسيطرة على لبنان. فقرار السعودية ثابت في العداء له منذ أن رفض العماد عون اتفاق الطائف الذي كان الأساس لجعل لبنان حديقة خلفية للمملكة السعودية، وارتفعت درجة العداء ضده مرة أخرى عندما وقع التفاهم الوطني مع حزب الله، وبلغت أقصاها عندما طالب بحقوق المسيحيين «المصادرة من قبل السنة» ودعم تدخل حزب الله في سورية.

وعليه فإننا نرى بأن الصراع على قيادة الجيش وقبله الصراع على رئاسة الجمهورية التي تعطلت انتخاباتها منذ نيف و444 يوماً ما هو ألا وجه من وجوه الصراع بين مشروع السيطرة السعودية ومشروع السيادة الوطنية، وبما أن العماد عون مصرّ على سياسته الاستقلالية السيادية، فإنه سيبقى مطارداً ملاحقاً في كل الملفات والأطر التي يمكن للسعودية التأثير فيها. مطاردة لا يجد منفذوها أي مانع من ممارسة الكيدية أو التعنت أو الابتزاز أو الخداع، فكل شيء مسموح لديهم في سبيل كسر الحالة السياسية السيادية الاستقلالية التي يمثلها العماد ومن يتحالف معه من الأطراف اللبنانيين مباشرة أو مداورة، وكما وضع السعودي ولا يزال يضع الفيتو على وصول العماد عون إلى رئاسة الجمهورية على رغم أنه الأكثر استحقاقاً لها بكل المعايير القانونية واللبنانية، وضعت السعودية الفيتو على وصول صهره لقيادة الجيش على رغم أنه بتسليم الجميع الأكثر كفاءة لهذا المنصب. والأدهى من ذلك فإن الأعلام المسير سعودياً يعمل من أجل وضع الجيش في مواجهة العماد عون أو تصوير الأخير عدواً للجيش.

وهنا وحتى لا تختلط الأمور وتضيع الحقائق ينبغي التذكير بأن التيار الوطني الحر الذي يقوده العماد عون ولد من رحم الجمهور والشرائح الشعبية العاشقة للجيش اللبناني والمؤيدة له في حين أن تيار المستقبل الذي يتظاهر اليوم بحرصه على قيادة الجيش لم يكن يوماً إلا في موقع معاكس للمسار العسكري الوطني الذي يسلكه الجيش وقيادته، وهو امتهن عندما تولى السلطة سياسة محاصرة الجيش، وامتهن التحريض على الجيش عندما خرج من السلطة واحترف سياسة التضييق على الجيش في تسليحه وكانت الوعود بالهبات الوهمية أفضل وسيلة لديه لقطع الطريق على تسليح الجيش من هبات غير مشروطة أو من خزينة الدولة. بالتالي إن الحرص المصطنع اليوم على قيادة الجيش ليس من شأنه أن يخدع العارفين والمتابعين.

على ضوء كل ما تقدم لا نرى أن تعديل سن التقاعد سيكون حلاً للمشكلة، بل أن فيه من السلبيات ما يفوق كثيراً الإيجابيات المأمولة، فإذا كان العاملون على هذا الحل يظنون أن رفع سن التقاعد 3 سنوات سيتيح لهم تعيين صهر العماد عون قائداً للجيش، فإننا منذ الآن نقول لهم إنكم تظنون خطأ، لأن من عطل التعيين في السابق ولا يزال سيعطل التعيين في المستقبل وسيذهب مفعول التعديل أدراج الرياح، فالمسالة ليست مسالة عمر ومدة بل هي مسألة سلوك متصل برفض حالة العماد عون في السياسة اللبنانية جملة وتفصيلاً ولذلك لا يكون الرد على الأمر بعمل جزئي تفصيلي بل يكون بالذهاب مباشرة إلى الأصل عبر العمل على إسقاط مشروع الهيمنة السعودية على لبنان وتحرير لبنان من القرار السعودي فإن كان نجاح في ذلك تفتح الطريق أمام حل كل الملفات من النفايات حيث المماطلة والتسويف إلى التعيينات حيث الكيدية والتأجيل، ومن غير هذا الأمر لا تكون حلول وطنية تريح وقد تكون معارك في غير محلها وانحراف عن الاتجاه الصحيح للمواجهة الحقيقية.

ولنتذكر وبموضوعية وواقعية أن ليس في لبنان قانون أو دستور ليطبق بل أن الدستور أو القانون هو قيد يستعمله القوي لغل يد الضعيف، ولذلك وفي ظل الحالة السياسية المشوهة التي يعيشها لبنان لا نجد منفعة بالتلهي بنصوص دستورية لم تطبق أو مواد قانونية يتم تجاوزها لأن السؤال في لبنان يبقى ماثلاً في الأذهان من يحكم ومن يحاسب من؟ وكل الذين يفترض أنهم أصحاب صلاحية في سلطة المراقبة والملاحقة والمحاسبة من السياسيين وعلى كل المستويات هم أصلاً في طليعة من ينبغي محاسبتهم. وفي ظل هذا الواقع وحتى تستقيم الأمور في شكل أو آخر نتمنى أن يبقي الجيش اللبناني خارج دوائر الصراع السياسي والكيدية لأن الجيش هو عنوان استقرار لبنان والعمود الفقري لبقائه.

أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى