الباحث الياس بولاد: لضرورة إعادة إعمار المناطق المتضرّرة على الطراز الدمشقيّ
سلوى صالح
لفت الباحث التاريخي الياس بولاد إلى أن تاريخ مدينة دمشق يعيد نفسه. إذ تتكرّر الأطماع الغربية مستهدفة مكانتها على مر العصور. مؤكداً أن من لا يعرف ما الذي حصل في الماضي لن يعرف كيف يتصرّف في المستقبل. فالمطلوب قدْرٌ كبير من الحكمة والوعي والحسّ الوطني لمعالجة الأمور بدافع الحرص على سورية ووجودها.
وأوضح بولاد أن دمشق كانت قبل أحداث فتنة 1860 أكبر مركز صناعي في المنطقة. وكانت المدينة الصناعية الأولى في الشرق بلا منازع لما فيها من معامل ومصانع ومواد خام وورش وعمّال وصناعيين مَهَرة، إضافة إلى علاقات دولية تربطها بالمراكز التجارية في العالم. حتى أن أسعار الحرير العالمية كان يحدّدها تاجر دمشقيّ اسمه «فرنسيس مسابكة» قُتِل بلبوس طائفيّ، ما يؤكد أن الموضوع في تلك الفتنة المفتعلة كان استهدافاً من الدول الغربية لسورية كبلد متطوّر صناعياً آنذاك.
وأضاف بولاد أن أهمية دمشق ومكانتها في ذلك الوقت دفعتا الغرب إلى القضاء على أمهر الصناعيين والحِرفيين، وحرق وُرشهم ومنازلهم وأحيائهم وتسهيل هجرة من تبقّى منهم.
وبعد توقف تلك الأحداث، أعيد بناء الأحياء المحروقة والتي كانت تتركز فيها صناعة الحرير. وأهمها حي «باب توما» وحي «القيمرية»، لكن المشكلة أن عملية البناء تمت على النمط الغربي، بعدما كانت تلك الأحياء مبنيّة على الطراز الدمشقيّ. إذ استطاع الغرب أن يُدخل السمّ بالدسم، فشجّع على بناء الأبنية الطابقية، ولولا تدخّله لكانت الأبنية الدمشقية كلها ذات طابع دمشقيّ.
ونبّه الباحث بولاد إلى عدم الوقوع في الخطأ مرة أخرى عند إعادة إعمار المناطق التي دمّرها الإرهابيون. داعياً إلى عدم تبنّي النمط الغربي الذي لا يعبّر عن هوية المدينة. وضرورة المحافظة على الإرث القديم والهوية الدمشقية الأصيلة وعمرها آلاف السنين.
وقال: يتوجّب على الجهات والمؤسسات المعنية التخطيط من الآن لإعادة إعمار ما تهدّم مع مراعاة أن تبنى المناطق المهدمة بمتانة لتقاوم الزمن مئتي سنة على الأقل، وهذا بحاجة إلى تضافر الجهود بين المؤسسات المعنية على أعلى المستويات.
وتطرّق بولاد إلى موضوع إشكاليّ، إذ إنّ الأبنية الضخمة في كل دول العالم يكتب عليها اسم من صمّمها ونفّذها وبناها، ولكننا في دمشق نفتقد إلى ذلك. خصوصاً أننا نملك في سورية أبنية فنية عالمية مميّزة، لكنها مجهولة مُنفّذها. مضيفاً أنه بعد البحث والرجوع إلى المراجع والوثائق التاريخية تبيّن أن معظم المؤرخين والباحثين تجنّبوا ذكر هذه المعلومات بالتفصيل، إنما اكتفوا بالحديث عن النشاطات الاقتصادية والتجارية والاجتماعية في المجتمع الدمشقي بشكل عام، والتي كانت تتوزع على ثلاثة أحياء دمشقية مهمة وهي الحي الإسلامي والحي المسيحي والحي اليهودي، ولكل حي تخصصه في مجال المهن اليدوية ولكل عائلة أسرارها الخاصة في مجال المهنة التي تتوارثها.
إلّا أن جانباً من الفنون والحِرف اليدوية كانت بِيد العائلات الدمشقية المسيحية ومنها فنّ العمارة، وهذا موثّق في كتاب حصل عليه الباحث بولاد في بيروت عنوانه «نبذة تاريخية في الحِرف الدمشقية» للكاتب الباحث الياس عبدو قدسي، الذي يؤكد أن مهنة العمارة وبناء القصور والكنائس والخانات نفّذت بأيدي أبناء هذه العائلات. إلا أن تعليمات الولاة العثمانيين في ذلك الوقت كانت تقضي بعدم ذكر الأسماء على الأبنية.
ومن الأهمية بمكان بالنسبة إلى الباحثين والمؤرخين معرفة هوية الجنود المجهولين الذين كانوا وراء إنجاز هذه الأبنية الفخمة التي تتميز بالزخرفة الإسلامية. مشيراً إلى أنه كان في كل كنيسة دمشقية أرشيف يوضح مهنة كل حِرفيّ، إلا أن هذا الأرشيف أحرِق في أحداث 1860. فالمجتمع الدمشقي المسيحي لم يكن مجرّد كنائس وشموع، إنما هو مجتمع عريق عمره أكثر من ألفَي سنة، ومترابط ومنتظم بمجموعة من العلاقات والشبكات الاقتصادية والتجارية والثقافية والفكرية مع محيطه ومع العالم.
باختصار، يقول بولاد إن في سورية شعباً ذكياً قابلاً للتطوّر بسرعة لما يملكه من ثروات بشرية ومادية. مستشهداً بما قاله الشاعر الفرنسي لامارتين عندما زار خان أسعد باشا في دمشق عام 1833: «إن شعبا يستطيع مهندسوه إنشاء مثل هذا الصرح، وعمّاله من ذوي المقدرة على تنفيذه، لا يمكن للفنون أن تموت عندهم».
وشدّد الباحث بولاد على ضرورة تأهيل الأجيال الشابة وتنمية ارتباطها بوطنها. وإذا لم نتسلّح بالوعي والتخطيط السليم سيبقى التاريخ يعيد نفسه ونقع في الفخّ. ويبدأ ذلك بوضع خطة لتهيئة المدارس لإفهام الجيل الجديد ما هو تاريخه وأهمية ماضيه، إذ نفتقد لوجود متخصّصين يبحثون عميقاً في تاريخ دمشق وحضارتها. داعياً وزارتَي الثقافة والتربية إلى إحياء المِهن والحِرف الدمشقية القديمة، وإلى تركيز الاهتمام على ذلك إعلامياً من خلال تكثيف الندوات حول المواضيع التراثية والحِرف اليدوية، والاعتماد على أبناء البلد المخلصين لإحياء تراثهم الحضاري وعدم الاعتماد على المستشرقين في ذلك. فقد كانت لنا منظومة حياتية عمرها آلاف السنين افتقدناها وصرنا نقلّد الآخرين. واليوم يدرس أبناء البلد ويتعلمون ويرحلون للعمل في أوروبا.
كما دعا بولاد إلى ضرورة تكثيف زيارة طلاب المدارس للمواقع الأثرية والبيوت الدمشقية والجوامع والكنائس، وإطلاعهم على هندستها وطرق بنائها. وتشجيعهم على الكتابة حول مشاهداتهم. ما يفتح ملكة البحث لديهم بهدف إيجاد جيل متمسّك بتاريخه وثقافته بعيداً عن الفكر الإرهابي والأفكار المغلوطة.
ويحمل الباحث بولاد المولود عام 1953 إجازة في الأدب الفرنسي ودبلوم ترجمة. وعمل دليلاً سياحياً برفقة المجموعات السياحية التي كانت تزور سورية لمدة ثلاثين سنة، ما جعله يهتمّ بالأبنية الأثرية وتفاصيلها، بعدما أدهشته المعلومات التي يملكها السيّاح الأجانب والتفصيلات التي لا يعرفها السوريون عن بلادهم.