“حيدر حاج اسماعيل / “الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم 

 

 

 

تقوم «البناء» بنشر كتاب الدكتور حيدر حاج اسماعيل «الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم ـ الآيات التي استبدلت بآيات أخرى بإرادة الله» والكتاب يحاول إلقاء الضوء على عدد من الآيات القرآنية التي جرى نسخها بما لا يتلاءم مع روحية القرآن الكريم المتسامحة خصوصاً ما جاء في سورتي «السيف» و«القتال».

و»البناء» تنشر هذا الكتاب لقناعتها بضرورة توكيد حقيقة القرآن الكريم المتسامحة والمتناقضة مع الآيات المذكورة التي نسخت العديد من آيات الكتاب الكريم، لا سيما أن التكفيريين يقومون بتوظيف هذه الآيات لتبرير إرهابهم ووحشيّتهم.

المشهد التطبيقي في العالم العربي: نتقدّم الآن لعرض أفكار أهم الحركات الإسلامية ونسبة كل منها إلى المصاحف.

في مصر: قد يكون حسن البنا المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين في مصر خير من عبّر عن القرآنين ناسخ القرآن ومنسوخه إبان قيادته لجماعة الإخوان المسلمين في مصر. وكان في سلوكه مقتدياً بالخطوات التي قام بها محمد ص في قيادته للمسلمين في زمانه. فهو القائد المسالم الذي لا يريد لمصر عموماً، ولسلطات مصر تحديداً، إلا برداً وسلاماً. وذلك في بداية عهده. أما بعد أن قوي عود جماعته وأتم تدريبها وتجهيزها، فهي الحرب الضروس على أعداء الإسلام والسلطة التي لا تأخذ، في الحكم، بتعاليمه.

وهذا بعض ما قال، في أول الأمر: «لا بد من جديد في هذه الأمة… هذا الجديد هو تعديل الدستور المصري تعديلاً جوهرياً توحّد فيه السلطات». وأضاف قائلاً: «ما كان لجماعة الإخوان المسلمين أن تنكر الاحترام الواجب للدستور باعتباره نظام الحكم المقرر في مصر، ولا أن تحاول الطعن فيه أو إثارة الناس ضده أو حضّهم على كراهيته. ما كان لها أن تفعل ذلك وهي جماعة مؤمنة مخلصة تعلم أن إهاجة العامة ثورة، وأن الثورة فتنة، وأن الفتنة في النار». 58

بعد ذلك، وفي مذكراته، كان التزامه بالقرآن في صيغته الربّانية النهائية واضحاً لا لبس فيه، فقد أكد أن «»الإسلام» عبادة وقيادة، ودين ودولة، وروحانية وعمل، وصلاة وجهاد، ومصحف وسيف، لا ينفك واحد من هذين عن الآخر». وفي المذكرات أيضاً، قال: «فالإسلام الذي يؤمن به الإخوان المسلمون يجعل الحكومة ركناً من أركانه، ويعتمد على التنفيذ كما يعتمد على الإرشاد». 59

ولم يكتف المرشد العام للإخوان المسلمين بكل ما تقدّم، بل ذهب إلى أبعد من ذلك وأشد خطراً عندما كشف عن السر العظيم، سر القرآنين والمسلكين: السلام أولاً ثم الحرب. قال: «منذ عشر سنوات بدأت دعوة الإخوان المسلمين خالصة لوجه الله مقتفية لأثر الرسول ص ، متخذة القرآن منهاجها تتلوه وتتدبّره، وتقرؤه وتتفحّصه، وتنادي به وتعمل به، وتنزل على حكمه، وتوجه أنظار الغافلين عنه من المسلمين».

«والآن أيها الإخوان: قد حان وقت العمل وآن أوان الجدّ ولم يعد هناك مجال للإبطال. سننتقل من دعوة الكلام وحسب إلى دعوة الكلام المصحوب بالنضال والعمل. وسنتوجّه بدعوتنا إلى المسؤولين، وسندعوهم إلى منهاجنا ونضع بين أيديهم برنامجنا، فإن أجابوا الدعوة وسلكوا السبيل إلى الغاية، آزرناهم، وإن لجأوا إلى المواربة، وتستروا بالأعذار الواهية والحجج المردودة، فنحن حرب على كل زعيم، أو رئيس حزب، أو هيئة لا تعمل على نصرة الإسلام، ولا تسير في الطريق لاستعادة كلمة الإسلام ومجد الإسلام. سنعلنها خصومة لا سلم فيها ولا هوادة، حتى يفتتح الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الفاتحين. إلى الآن أيها الإخوان لم تخاصموا حزباً ولا هيئة، كما أنكم لم تنضموا إليهم كذلك. كان ذلك موقفكم أيها الإخوان، سلبياً. هكذا في ما مضى، أما الآن، وأما في هذه الخطوة الجديدة، فلن يكون كذلك. ستخاصمون هؤلاء جميعاً في الحكم وخارجه خصومة شديدة إن لم يستجيبوا لكم، ويتخذوا تعاليم الإسلام منهاجاً يسيرون عليه ويعملون به، فإما ولاء، وإما عداء. ولسنا في ذلك نخالف خطتنا، أو ننحرف عن طريقنا أو نيّر مسلكنا بالتدخل في السياسة كما يقول الذين لا يعلمون. إننا بذلك ننتقل خطوة ثانية في طريقنا الإسلامي وخطتنا المحمدية ومنهاجنا القرآني». 60

وفي رسالة المؤتمر الخامس، أعلن البنّا وجود كتائب إخوانية جاهزة وحاضرة للجهاد، قال: «في الوقت الذي يكون فيه منكم معشر الإخوان المسلمين ثلاثمئة كتيبة قد جُهّزت كل منها، نفسياً وروحياً بالإيمان والعقيدة، وفكرياً بالعلم والثقافة، وجسمياً بالتدريب والرياضة في هذا الوقت طالبوني بأن أخوض بكم لجاج البحار، وأقتحم بكم عنان السماء، وأغزو بكم كل عنيد جبّار، فإني فاعل إن شاء الله». 61

بعد البنّا كتب سيّد قطب، يقول: «إن المجتمعات القائمة كلها مجتمعات جاهلية وغير إسلامية… وإنه لينبغي التصريح بلا وجلٍ أن الإسلام لا علاقة له بما يجري في الأرض كلها اليوم لأن الحاكمية ليست له. والبديل الوحيد لهذه الأوضاع الزائفة، هو أولاً، وقبل كل شيء قيام مجتمع إسلامي يتخذ الإسلام شريعةً له، ولا تكون له شريعة سواه». 62

ويمضي إلى القول: «لا بد من درجة من القوة لمواجهة المجتمع الجاهل. قوة الاعتقاد والتصور، وقوة الخلق والبناء النفسي، وقوة التنظيم والبناء الجماعي، وسائر أنواع القوة التي يواجه بها المجتمع الجاهلي، قوة الصمود والتصدّي، وقوة التغلّب عليه». 63

وتجدر الإشارة إلى أن تفرّع جماعة الإخوان المسلمين الأم في مصر إبان حكم جمال عبد الناصر كان، أساسياً، حول قضية الموقف من السلطة القائمة: هل يكون موقف جهاد أم إرشاد؟ فمن قائل بأن بناء المجتمع الإسلامي بالتربية والتثقيف الدينيين هو الطريق. وقد عرف جمهورهم «بالسلفيين». ومن قائل بالجهاد والقتال ضد السلطة. وهناك فروع أخرى كثيرة ذات مواقف متوسطة. أما اسم «الإخوان المسلمون» فقد حملته جماعة عرفت باسم «التكفير والهجرة». هذه الجماعة رأت أن تنهج نهج الرسول المؤلف من مرحلتين: مرحلة نشر الدعوة التي تصفها الآيات المنسوخة والمرحلة الثانية هي مرحلة الجهاد والنصر على أعداء الله والمسلمين.

في سورية: أما في بلاد الشام سورية تحديداً فقد تألفت جمعية الإخوان المسلمين ونشأت من اندماج عدد من الجماعات الإسلامية الصغيرة بقيادة مصطفى السباعي الذي انتخب مراقباً عاماً للجمعية في سورية ولبنان. وقد خلفه عصام العطار في عام 1957.

ومرّت الجمعية بصعوبات كثيرة ومنازعات مع السلطة في سورية الجمهورية العربية السورية حالياً خلال تاريخها، بخاصة صدماتها مع القيادات التي جاءت بها الانقلابات العسكرية منذ عام 1948 إلى عام 1983. وفي تفاصيل هذا التاريخ لن نخوض، إذ هدفنا مختلف، وهو النظر في نسبة فكر الجمعية إلى القرآنين كما أسلفنا منذ بداية بحثنا. فلنعد إلى المجرى الرئيسي للبحث. لقد كان مبدأ الجهاد، بشتى أشكاله، مبدأ الجمعية منذ حرب فلسطين الأولى عام 1948. فإننا لا نجد معبراً عن الحقيقة الجهادية للجمعية من البيان الذي حمل اسم «الثورة الإسلامية في سورية» والذي صدر عام 1980. يخاطب البيان المواطنين قائلاً: «إن الثورة الإسلامية المعاصرة إذ تحمل على عاتقها عبء الجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى، وتحكيم شريعته في الأرض، ضماناً لسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة… تجد من ثقتها بتحقيق وعد الله ما يدعوها إلى أن تبشّركم بأم المدّ الإسلامي المتصاعد في كل مكان: ماض في طريقه، حتى يتحقق النصر المؤزر لهذا الدين بعون الله على كل قوى الشر والظلام والجاهلية». 64

ومن بلاد الشام فلسطين، التي نشأت فيها التنظيمات الإسلامية الآتية:

حزب التحرير الإسلامي: أسس هذا الحزب الشيخ الفلسطيني تقي الدين النبهاني في القدس في عام 1953 وذلك بعد خروجه من صفوف الإخوان المسلمين. وبعد وفاة الشيخ النبهاني في عام 1977 في بيروت تسلّم قيادة الحزب الشيخ عبد القديم زلوم.

ويعتقد قادة هذا الحزب بأن تحرير فلسطين ستقوم به دولة الخلافة الإسلامية التي يسعى الحزب لإقامتها وليس قبل ذلك.

وحزب التحرير لم يشارك في الانتفاضة الفلسطينية مشاركة عميقة. فهو يرفض الخيار العسكري.

حركة الجهاد الإسلامي: نشأت في مطلع الثمانينات من أجنحة جماعة الإخوان المسلمين. وهي تختلف عن الجماعة بمواقفها ومنطلقاتها.

ويعتبر الدكتور فتحي الشقاقي الذي اغتيل في مالطا في 26/10/1995 وعبد العزيز عودة والشيخ سيد بركة المؤسسين لهذه الحركة. وتجدر الإشارة إلى أن عدداً من عناصر قيادتها كانوا ذوي أصول علمانية، مثل رمضان عبد الله شلح وسليمان عودة وإبراهيم أبو معمر ونافذ عزام. فتحي الشقاقي وعبد العزيز عودة كانا قبل طردهما من مصر، طالبين في جامعة الزقازيق .

تختلف حركة الجهاد الإسلامي عن حركة الإخوان المسلمين في أنها تعتبر نفسها حركة تجمّع ما بين التربية الهادية والجهاد، في حين أن الإخوان اختاروا طريق الهدى.

حماس: في 09/01/1987، في اليوم الأول للانتفاضة، تأسست حركة حماس في اجتماع عقد في منزل الشيخ أحمد ياسين في غزة حضره ستة من أبرز قيادة المجمع الإسلامي، وهم: الدكتور عبد العزيز الرنتيسي وهو طبيب من بلدة خان يونس، والدكتور ابراهيم البازروي، وهو صيدلي من غزة، والشيخ صلاح شحادة، وهو موظف في الجامعة الإسلامية في غزة، والمهندس عيسى النشار من بلدة رفح، ومحمد شمعة، وهو مدير مدرسة من مخيّم النصيرات.

وبعد اعتقال الشيخ أحمد ياسين في أيار 1989 والحكم عليه بالسجن لمدة خمسة عشر عاماً، برز الدكتور عبد العزيز الرنتيسي ومحمد الزهار في قيادة حماس. وقد أبعد هذان من قبل «إسرائيل» إلى مرج الزهور في لبنان في كانون الأول، 1992.

في المغرب العربي مراكش : رمت الحركة الوهابية، من الوجهة الدينية، وباعتبارها حركة إصلاح سلفية، إلى محاربة البدع بخاصة «الطرقية». أما من الناحية السياسية فقد كانت مناهضة للخلافة العثمانية. وقد وجد حكام المغرب في هذه الحركة وأفكارها عوناً لهم. وهكذا كان ما بين النصف الثاني من القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر مع السلطان محمد بن عبد الله 1790 1757م . فكان السلطان «يحض الناس على مذهب السلف» كما كان ينهاهم «عن قراءة كتب التوحيد المؤسسة على القواعد الكلامية المحررة على مذهب الأشعرية. ويعلن أنه «مالكي مذهباً حنبلي اعتقاداً». 65

غير أن صيرورة الوهابية عقيدة للدولة، وبصورة رسمية، فقد تمّت في عهد السلطان سليمان 1822 1792 ابن السلطان محمد بن عبد الله. 66

والسلفية المغربية لم تلبث أن اتخذت صورة جديدة بفضل ثورة محمد بن علي عبد الكريم الخطابي 1926 1921 ، الثورة التي نادت بالتحديث. مع هذه السلفية الجديدة، «الجديد لم يعد بدعة» كما كان مع السلفية الوهابية». المصلحة العامة التي تقوم عليها تربية الشخصية الإسلامية إنما تُبنى على تقوية التضامن بين الجماعة الإسلامية بل أيضاً على الإخاء الإنساني…». وهذا معناه التسامح مع المخالفين. ويؤكد الفاسي، بعد ذلك، قائلاً: «إن الأسلوب الذي اتبع في المغرب أدى إلى نجاح السلفية بدرجة لم تحصل حتى في بلاد محمد عبده وجمال الدين». 67

وقد يكون الشيخ عبد السلام ياسين، مرشد وزعيم جماعة العدل والإحسان ومؤسسها في المغرب العربي النموذج الأقرب إلى القرآنين وفق تسلسلهما التاريخي. وهو يسمي مقاربته «المنهاج النبوي» قاصداً الطريق التي سار فيها رسول الله بهداية الله. 68 ونحن نرى أن هذا المنهاج يعادل طريق الناسخ والمنسوخ، الذي سلكه محمد صلعم حتى انعقد له النصر المبين.

وتألفت الطريق التي سلكها الرسول من مراحل أربع، هي: التثقيف أو التربية العقيدية وبدأت في مكة، وتنظيم جماعة المقبلين على الدعوة في المدينة، والزحف التغلغل في الشعب ثم القومة. والقومة، في قاموس الشيخ ياسين، عنت تسلّم الحكم وإقامة الدولة الإسلامية. 69

أما القومة، أي الجهاد نحو النصر، فتأتي في المرحلة الأخيرة، وبقيادة من يسمّيهم «المنابذين للحكم الجائر» أو «الطليعة المجاهدة». 70

جوهر «المنهاج النبوي»، إذن، هو أن الطريق إلى الدولة تكون عبر المجتمع وبه، وليس العكس كما فهم بعض القادة الإسلاميين في المشرق عندما ظنوا أن الطريق إلى المجتمع تكون عبر الدولة وبها، باعتماد أسلوب القتال والانقلابات العسكرية.

في تونس: كتب الشيخ الغنوشي، المؤسس الأساسي للحركة الإسلامية في تونس واصفاً نشوءها وطبيعتها قائلاً: «في بداية السبعينات، انبعثت بعض الدروس في جامع الزيتونة كدرس الشيخ بن ميلاد، فقد بدأ الجامع يستعيد نشاطه الثقافي. والتفّ حول الدرس بعض الشباب، ومنهم الشيخ عبد الفتاح مورو الذي تتلمذ على يد الشيخ بن ميلاد.

وفي بداية السبعينات أيضاً، قدمت أنا من المشرق مفعماً بفكرة الإصلاح الديني التي شهدها الشرق، وكنت ذهبت إلى سوريا للدراسة لأنني من بقايا التعليم الزيتوني، وخرّيجو الزيتونة لم يكن لهم أمل في الجامعة، فالبعض يتوظّف والبعض يتسلّل إلى الشرق لأن طريق الشرق لم يكن مشجعاً عليه. ولما رجعت إلى تونس، حضرت حلقات الشيخ بن ميلاد، والتقيت بالشيخ عبد الفتاح مورو، ثم انطلقنا في الحركة الإصلاحية، وقد ساعد عملي في التعليم الثانوي على الاتصال بالشباب وتوعيتهم، وكان عملنا يتركز على التوعية العقائدية». ويعني الشيخ الغنوشي «بالتربية العقائدية» عرض المفاهيم الغربية وتحليلها ونقدها، وتقديم البديل الإسلامي. 71

ويذكر الهرماسي أن الحركة الإسلامية التونسية كانت حركة شباب مثقف، وكان الوسط المدرسي والجامعي مركز الدعاية والقاعدة. 72

وقد كانت العوامل التي عملت على تسيّس الحركة، في ما بعد، ثلاثة، وهي: سياسة الباب المفتوح التي زادت من الأزمة الوطنية. والصدام الدموي بين الاتحاد العام للشغل والدولة في كانون الثاني من عام 1978. ثم تأثير الثورة الإسلامية الإيرانية.73 وتحت تأثير هذه العوامل تحوّلت الحركة من حركة ذات طبيعة دينية أخلاقية إلى حركة اجتماعية ذات أساس ديني.

ويصف الغنوشي هذه الحقيقة بقوله: «إن الإسلاميين بقوا بعيدين من مشاكل الطبقة الشغيلة ومن التأثير فيها وتسخيرها تاركين المجال فسيحاً لأصحاب الإيديولوجيات اليمنية أو اليسارية خاصة للتحكم في هذا القطاع عن طريق تبنّي مشكلاته والدفاع عنه… فلقد تطوّرت مشكلات المجتمعات، وهم لم يتطوروا فكأنهم ينادون الناس من مكان بعيد».74 وهكذا تحولت الحركة فعلياً على مستويين: مستوى المفاهيم، ومستوى التعبير «فبدلاً من الإسلام الجوهر اللاتاريخي L Islam a-historique جاء الإسلام الثوري» وفقاً لوصف الهرماسي. 75

أما ثورية الحركة فقد تحددت بالمطالبة بالديمقراطية والحرية والمساواة، وبكلمة واحدة المطالبة بنظام يعترف بالحريات العامة. يقول الغنوشي: «إذا تحقق لنا نظام يعترف بالحريات العامة، فينبغي على الحركة الإسلامية أن تمارس حقها كطرف سياسي، معترفة بغيرها من الأطراف السياسية الأخرى… فتخوض المعارك الانتخابية… وتشارك في الحكم ولو جزئياً لتدريب أفرادها على إدارة المؤسسات وعلى قيادة الجماهير وتعبئتها وتوعيتها بأهداف الحركة الإسلامية. إذ بالمجتمع الإسلامي لم ينزل من السماء مكتملاً ولا سقط في يوم، إنما بُني حجراً وسقط حجراً حجراً هكذا إعادة البناء». 76

في الجزائر: في 06 أيلول من عام 1989 وافقت السلطات الجزائرية على طلب ترخيص يسمح للجبهة الإسلامية للإنقاذ بالعمل السياسي. وكان عدد المؤسسين خمسة عشر، هم: عباس مدني، علي بلحاج، علي جدي، أحمد مراني، عبد الرزاق رجام، كمال قمازي، عاشور الربيحي، بن عزوز زبدة، محمد العربي معريش، عبد الله حاموش، مختار إبراهيمي، إحسان ضحاوي، سعيد مخلوفي، عثمان عيساني، ومحمد كرّاد. وقد عيّن عباس مدني رئيساً للجبهة. 77

وكان مدني يرى أن الاستعمار اعتمد على هجوم ثقافي لاستمراره. ويشير منتقداً، إلى كتابات ميشال عفلق، وسلامة موسى، وطه حسين، وتوفيق الحكيم. ويذكر، ممتدحاً، أسماء مصطفى صادق الرافعي، وحسن البنّا، ومصطفى السباعي، ومحمد إقبال، وإبن باديس، ومالك بن نبي. 78 معنى ذلك أن على حزب الجبهة أن يتصدى للغزو الثقافي الأجنبي بتدريس الإسلام وبالتربية الإسلامية طريق الهدى .

إلى جانب هذا التصور لعمل الجبهة، وربما في مواجهته، وُجِد تصوّر آخر، وكان أبرز ممثليه علي بلحاج. ويرسم هذا القيادي هدفه بلغة لا لبس فيها عندما يقول: «هدفنا الاستراتيجي البعيد هو إقامة الخلافة الإسلامية في الأرض… وهذا يتم عبر مراحل. ونحن نبدأ كما قال الله عز وجلّ: «الأقربون أولى بالمعروف». نبدأ في البلاد ونحاول أن نقيم دولة إسلامية إن شاء الله في الجزائر، وبعد ذلك نبدأ ونعمل شيئاً فشيئاً… حتى نقيم دولة الخلافة الإسلامية. ونحن لا نرضى إلا بإقامة الخلافة الإسلامية التي تسوس الأمة بكاملها على ضوء الكتاب والسنة. 79

وفي الانتخابات التي أجريت في 26 كانون الأول، 1991 نال حزب الجبهة الغالبية بحوالى 3 ملايين و200 ألف صوت وهذه النتيجة تمثل 47 في المئة من أصوات المتفرعين. وقد وفرت للجبهة 188 مقعداً من أصل 430. وصار واضحاً للجميع أن الدورة الثانية ستحقق انتصاراً سياسياً لها، وبالطريقة الديمقراطية، إذ ستتمكن الجبهة، وفقاً للتقديرات حينذاك، من تأمين غالبية الثلثين في المجلس التشريعي. وستكون هذه الغالبية كافية لمراجعة الدستور وربما تعديله بحيث يصبح منسجماً أو متفقاً مع مبادئ الإسلام. 80

غير أن الأمور تبدّلت فجأة وبصورة جذرية في 11 كانون الثاني من العام نفسه. فقد تدخل العسكر وأجبر رئيس الجمهورية الشاذلي على الاستقالة وعطّلت العملية الانتخابية. وقد أذاع أحد قادة حزب الجبهة، وهو عبد القادر حشاني، بياناً ندّد فيه بانقلاب الجيش، ومما جاء فيه: «إن السلطة الحاكمة خانت الله والرسول والمؤمنين… وأمام خطورة الوضع لا يجوز شرعاً لأي فرد من هذا الشعب العظيم أن يقف موقف الحياد في هذا الظرف العسير الذي تدور فيه المعركة بين الشعب ودينه والجزائر من جهة الاستعمار وعملائه وأبواقه من جهة أخرى». 81

بعد ذلك، وفي 19 آذار من عام 1992، أي بعد حوالى ثلاثة أعوام منذ نشوئها. حلّت جبهة الإنقاذ رسمياً وبدأت مرحلة الجهاد ضد الدولة. 82

والحق يقال، إن فكرة الكفاح المسلح ضد نظام الحكم الجزائري ولدت خلال إضراب أيار حزيران، 1991 بعد التدخل العسكري العنيف ضد المعتصمين في الساحات العامة لمدينة الجزائر. 83

وقد أسس قادة الإسلام الجهادي، في الجزائر، حركتهم على القرآن والسيرة النبوية. كما استلهمت كتابات سيد قطب بخاصة كتابه: معالم الطريق. 84

في أفغانستان: يبدو، حتى الآن، أن تنظيم «القاعدة» الذي كان بقيادة الشيخ أسامة بن لادن وحالياً بقيادة الدكتور أيمن الظواهري هو الأقرب إلى القرآن في صورته الربّانية غير المنسوخة، ونعني قرآن الجهاد. فالقتال ضد الوجود العسكري السوفياتي، في الماضي، كان، من الوجهة الدينية، جهاداً، وهو الآن جهاد ضد الوجود العسكري الأميركي في أفغانستان. والحقيقة القرآنية الجهادية سمعنا عنها في رسائل قادة التنظيم المسجلة التي نشرها تلفزيون الجزيرة ولم تعد خافية على أحد. وقد يكون، في ذلك، سبب تعاطف بعض المسلمين.

المصاحف: بعد أن تكلّمنا عن القرآنين، واختلاف المفكرين، وتعددية مواقف الحركات الإسلامية وتباينها، يجدر بنا، بعد كل ذلك، وقبل اختتام هذا الفصل أن نذكر شيئاً عن قصة المصاحف: تعددها واختلافها. فقد رُويَ أن غير واحدٍ جمع القرآن في مصاحف، ويذكر منهم على بن أبي طالب، وأبيّ بن كعب، وسالم مولى حذيفة، وعبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير، وأبو زيد، ومعاذ بن جبل وآخرون.

وفي الأمصار، أخذ أهل الكوفة بمصحف ابن مسعود، وأهل البصرة اتفقوا على مصحف أبي موسى الأشعري، أما أهل دمشق فعلى مصحف المقداد بن الأسود، وأهل الشام على مصحف أبيّ بن كعب. «وكانت هذه المصاحف يخالف بعضها بعضاً. ولما اجتمع أهل العراق وأهل الشام ليغزوا مرج أذربيجان كانوا يتنازعون في القراءات حتى أنكر بعضهم على بعض ما كان يقرأه من غير مصحفه زاعماً أنه ليس من القرآن، فنشأ عن ذلك الجدل والنزاع…». 85 حدث ذلك في زمن الخليفة عثمان بن عفّان، الذي سرعان ما حسم الأمر بطلبه إحضار جميع المصاحف الموجودة، وكانت من عسبٍ وأكتاف وأوراق وصحف. وأوامر الخليفة زيد بن ثابت مع رهط من أهل قريش بأن يجمعوا القرآن في مصحف واحد. وهكذا كان. وتم الجمع عام 25 للهجرة.

أما المنهج الذي اتبع في الجمع فقد كان اعتماد ما هو مخطوط، وما هو محفوظ في صدور الناس، وأن لا يُقبل شيء إلا إذا شهد له اثنان. وهكذا صنع المصحف الرسمي للدملة الإسلامية. 86 وتجدر الإشارة إلى أن مصحف عثمان كان خالياً من النقط والشكل. فما كان على القارئ في مصره إلا أن ينقّط ويشكّل النص على مقتضى معاني الآيات. 87

مع ذلك مع حصول جمع القرآن في مصحف واحد، فقد كتب أكثر من واحد من أهل السلف في وصف المصاحف القديمة، وبخاصة المصاحف التي أبطلها الخليفة عثمان بن عفّان. نذكر، فيما يأتي، بعضاً من تلك الكتابات: كتاب اختلاف مصاحف الشام والحجاز والعراق، لابن عامر، المتوفى في سنة 118هـ. وكتاب: اختلاف مصاحف أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة عن الكسائي، المتوفى في سنة 189هـ. وكتاب: اختلاف أهل الكوفة والبصرة والشام في المصاحف، للفرّاء البغدادي، المتوفى في سنة 207هـ. وكتاب: اختلاف المصاحف لخلف بن هشام المتوفى في سنة 229ه. واختلاف المصاحف وجامع القراءات، للمدائني، المتوفى في سنة 231هـ. واختلاف المصاحف، لأبي حاتم، المتوفى في سنة 248هـ. وكتاب المصاحف والهجاء، لمحمد بن عيسى الأصبهاني، المتوفى في سنة 253هـ. وكتاب المصاحف، لابن أبي داود، المتوفى في سنة 316هـ. والمصاحف لابن الأنباري، المتوفى في سنة 327هـ. والمصاحف لابن اشته الأصبهاني، المتوفى في سنة 360هـ. وكتاب: غريب المصاحف، للوراق.

غير أنه، لم يصل إلينا، من هذه الكتب، لسوء الحظ، سوى كتاب واحد، هو كتاب المصاحف لابن داود السجستاني ابن الإمام أبي داود صاحب كتاب: السنن.

بعد هذا العرض للمصاحف وتعددها واختلافها ثم جمعها رسمياً وغزارة الكتابات عنها وحولها، ينشأ السؤال الآتي: لماذا لم يجمع القرآن وفقاً لناسخه ومنسوخه؟ وما الضير، عندما لا يحصل ذلك في الماضي، أن يحصل الآن؟ أليس الأفضل من الوجهة التثقيفية التربيوية فضلاً عن الناحية التاريخية، أن يُصنّف القرآن في مصحفين، هما: مصحف المنسوخ ومصحف الآيات غير المنسوخة فلا يقع الزلل، من قبل العاديين من القراء وبعض علماء الدين، عندما يعتمدون على آيات نسخها الله العلي القدير؟

ولأن ذلك، لم يحصل، في الماضي والحاضر، رأينا أن نقترح أن يحصل في يومنا تجنباً للخلط وتبياناً للحقيقة الربّانية، وقطعاً للنزاع الدائر الآن حول الإسلام، في أوساط المسلمين أنفسهم، وفي أوساط غيرهم، من التائقين للتعرف إلى حقيقته.

السُّوَر: يضمّ المصحف، الذي تحدثنا عنه، القرآن. ويتألف القرآن من سوَر تتألف كل واحدة منها من آيات. وتعلمنا كتب التاريخ أن أول ما نزل من آيات القرآن كان في عام 610 ميلادية 88 والآيات التي نزلت هي في سورة العلق، والتي تبتدئ بالآية التالية: «إقرأ باسم ربك الذي خلق». ويقال إن محمداً كان أمّياً، لذا أجاب الملك جبرائيل قائلاً: «لست بقارئ». وفي الأخير فهم محمد مغزى النداء، وتبلّغ الرسالة.

ومن جهتنا، نرجّح أن يكون ما حصل هو الآتي، أو ما يشبه. فالفعل «قرأ»، يفيد، في اللغة العربية معنى جَمَعَ. فإذا قلت: قرأت الكتاب معنى ذلك أنك جمعت ما في غلافه من عرفان. وقياساً، يمكن القول، إن الآية: «إقرأ باسم ربك» عنت: اجمع الناس بواسطة اسم ربك. أي بما صار شهادة في الإسلام، في ما بعد، نعني: أشهد أن لا إله إلا الله… والشهادة، هي ركن الإيمان بالله الإسلام ، في صورتها الكاملة المعروفة: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. على كل حال، لقد نزل القرآن عن طريق الوحي. ونزل منجّماً أي آيات آيات، وليس دفعة واحدة. واستغرق نزوله ما بين عشرين وخمسة وعشرين عاماً. 89 ونزل بعضه في مكة ويبلغ عدد السور المكية 82 سورة. وبعضه الآخر نزل في المدينة، والسور المدنية عشرون. 90

ثم هناك، من القرآن، ما نزل في غير مكة والمدينة. فهناك ما نزل في قرية الجحفة على طريق المدينة، وما نزل في بيت المقدس، وما نزل في مدين الطائف وما نزل في الحديبية. 91

وتصنّف سور القرآن إلى مكّية لنزولها في مدينة مكة ومدينية لنزولها في يثرب أو المدينة . ويُعتقدُ أن معرفة المكي والمدني من السور لازمة لعلماء الأمة لكي يميّزوا ناسخ الآيات من منسوخها. لذلك، لا بد لنا من الكلام، بمقدارٍ، عن قضية التمييز ومعاييره. وهذا ممكن على النحو الآتي:

السور المكية: ويستدل عليها، عموماً، بالعلامات الآتية:

هي تشتمل على لفظ «كلا».

أولها حروف التهجّي، باستثناء سورتي البقرة وآل عمران.

فيها من مثل: «يا أيها الناس» أو «يا بني آدم».

سور الآيات القصيرة المفصولة بفواصل.

سور فيها سرد لقصص الأقوام السابقة والأنبياء.

أو فيها قصة آدم وإبليس.

أما السور المدنيّة، فهي:

ما أمر بالجهاد.

ما اشتمل على الحدود والفرائض.

ما جاء على ذكر المنافقين. وإذا ورد لفظ «المنافقين» في سورة مكّية، مثل سورة العنكبوت، فهذا لا يبدّلها. حالتئذٍ تعتبر الآيات الشاملة على ذلك اللفظ، وحدها، آية مدنية. 92

غداً حلقة ثالثة

هوامش

58 – البنّا، حسن. «الإخوان المسلمون والدستور»، النذير، العدد 33. من رسالته إلى زعماء مصر بعنوان: نحو النور.

59 – البنّا، حسن. مذكرات الدعوة والداعية، ص 151.

60 – مجلة «النذير»، العدد 1.

61 – البنّا، حسن. رسالة المؤتمر الخامس، دار الكتاب العربي، القاهرة، ص 24.

62 – قطب، سيّد. معالم الطريق، ص 190.

63 – المرجع السابق، ص 191.

64 – بيان الثورة الإسلامية في سورية ومناهجها، دمشق، 09/11/1980، ص 1.

65 – الناصري، أبو العباس أحمد بن خالد. الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى، تحقيق وتعليق جعفر الناصري، ومحمد الناصري، 9ج، دار الكتاب، الدار البيضاء، 1956، ج8، القسم الثاني، ص 68.

66 – المرجع السابق، ج8، ص 121 -122. تجدر الإشارة إلى أنه جرت الاتصالات ما بين السلطان سليمان والأمير عبد الله بن سعود عزّزت تمسّك السلطان المغربي بالوهابية.

67 – الفاسي، علال. الحركات الاستقلالية في المغرب العربي، طبعة تطوان، ص 134.

68 – مجلة «الجماعة» العدد 7، 1401هـ. الافتتاحية.

69 – مجلة «الجماعة» العدد 9 كانون الثاني، 1981، ص 104.

70 – مجلة «الجماعة» العدد 10، 1982، ص 132. انظر أيضاً: إبراهيم اعراب. الإسلام السياسي والحداثة، أفريقيا الشرق، 2000، الدار البيضاء، ص 80 -90.

71 – من مقابلة سعيد النالوتي، الصحافة الإسلامية في تونس، المعرفة، 1980.

72 – جامعة الأمم المتحدة. الحركات الإسلامية المعاصرة في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، 1987، بيروت، الفصل السابع: «الإسلام الاجتجاجي في تونس» بقلم د. محمد عبد الباقي الهرماسي، ص 251 -252.

73 – المرجع السابق، ص 263.

74 – الغنوشي، راشد. دعوة إلى الرشد، 1982، ص 172 -173.

75 – الحركات الإسلامية المعاصرة في الوطن العربي، ص 266.

76 – الغنوشي، راشد. والترابي، حسن. الحركة الإسلامية والتحديث، 1981، ص 34 -35.

77 – قواص، محمد. غزوة الإنقاذ: معركة الإسلام السياسي في الجزائر، دار الجديد، بيروت، ص 85 -88.

78 – المرجع السابق، ص 92.

79 – الوطن العربي، باريس، العدد 176، 27/07/1990: مقابلة مع علي بلحاح.

80 – المرجع السابق، ص 121 -122.

81 – الوطن العربي، العدد 251، 24 كانون الثاني 1992.

82 – المرجع السابق، ص 125.

83 – المرجع السابق، ص 151.

84 – المرجع السابق، ص 173.

85 – السجستاني، أبو بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعب. المتوفى سنة 316هـ نقله من النسخة الخطية الوحيدة المحفوظة في المكتبية الظاهرية في دمشق، وصححه ووقف على طبعه الدكتور آرثر جفري، الطبعة الأولى، المطبعة الرحمانية في مصر، 1936، ص 6.

تجدر الإشارة إلى أن هناك من يشير إلى جمعين للقرآن: جمع أبي بكر كان بقصد حفظ القرآن خشية أن يذهب بعضه بذهاب حُفّاظه. بينما كان جمع عثمان للأسباب التي ذكرناها، وفي رأسها حسم النزاع حول قراءة القرآن، بعد ظهور الاختلاف في القراءات باختلاف الأمصار.

86 – المرجع السابق، ص 6 -7.

87 – المرجع السابق، ص 7.

88 – كفافي، محمد عبد السلام والشريف، عبد الله. في علوم القرآن: دراسات ومحاضرات، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، 1972، ص 38.

89 – المرجع السابق، ص 42.

90 – المرجع السابق، ص 60.

91 – المرجع السابق، ص 53. وهذه المعلومات مستفادة من النيسابوري، محمد بن حبيب، في كتابه: التنبيه على فضل علوم القرآن، البرهان، ج1، ص 192.

92 – المرجع السابق، ص 54 -55.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى