قراءة في رواية للكاتبة التونسيّة عفيفة السميطي
تميّزت الكتابة الروائيّة في تونس هذا العام بصدور مجموعة من الروايات تتّخذ من الثورة مرويّاً أساسيّاً من مروياتها، وهي تتخلّى بذلك ولو إلى حين عن تلك الكتابات الهجينة التي تجمع بين السرد والسيرة الذاتيّة والشهادة. التي كتبها مؤلفون لم يكتبوا قبلاً، وكانت لهم علاقة سابقة بالعمل السياسيّ وأتاحت لهم الثورة فرصة التعبير عنها.
من هذه الروايات التي أثارت الاهتمام رواية «غلالات بين أنامل غليظة» لكاتبة جديدة بدأت تجسّد حضورها بقوّة في المشهد الإبداعي التونسيّ، هي الكاتبة عفيفة سعودي السّميطي، فقد أصدرت هذه الكاتبة حتى الآن ثلاث روايات، وهي كاتبة منتظمة في إصداراتها ومنشغلة بالإبداع لكنّها تشقّ طريقها منفردة بين الكتابات النسائيّة في تونس.
تبدو لنا هذه الكاتبة إشكاليّة في مستويين مختلفين، مروياتها أو مضامينها السرديّة من ناحيّة والأساليب الفنّية التي تتّبعها من ناحية أخرى. ويبدو لنا المضمون السردي الذي عالجته مضموناً جديداً ومسايراً للظروف السياسيّة التي تعيشها تونس والمنطقة العربيّة عامة، وهو موضوع العنف السياسيّ والإرهاب.
تقوم روايتها على مدارين حكائيين، مدار حكائيّ اجتماعيّ قوامه امرأة شابة تمارس العمل الصحافيّ ولكنها انقطعت عن زوجها الذي انشغل بالعمل السياسيّ وترك لها ولداً ضريراً ويحوم هذا المدار حول هذه العلاقة بين الأمّ والابن الضرير والصديق العاشق والزوج الذي يظهر في نهاية السرد. أما الثاني فهو مدار حكائيّ سياسيّ، مبنيّ على رجل كان ينتمي إلى إحدى الجماعات الإرهابيّة ويعيش ملاحقاً مختفياً ومنقطعاً عن أسرته، وفي هذا المدار يتعلّق السرد بعلاقة هذا الرجل ببعض التنظيمات السياسيّة وبعض القيادات الإرهابيّة. ويتقاطع هذان المداران أو يلتقيان في الصفحات الأخيرة من الرواية عندما ندرك أنّ هذا الرجل «عبدالله» هو زوج هذه المرأة المنفتحة على العالم والمؤمنة بالحرّية والمقتنعة بالحداثة والمناضلة في سبيل أفكارها وهو في الوقت نفسه أبو هذا الولد الضرير.
الرواية ثريّة بالمواضيع التي طرحتها، واختارت موضوع اللحظة التاريخية.
هذا التّركيب للحكاية ينعكس على بنية الشخوص الّتي تقوم على كتلتين منفصلتين، كتلة أولى محورها سحر وهي الشخصيّة الرئيسيّة الأولى في الحكاية، وحولها تحوم شخوص قليلة: الطفل الضرير، محمود الجار وزوجته راضية، وآدم صديق سحر. وكتلة ثانية محورها عبدالله وهو الشخصيّة الرئيسيّة الثانية التي تتصل بمجموعة من الشخوص الثانويّة «الرّاعي في الجبل، طلحة الإرهابي، زيد، وبعض الشخوص الثّانويّة الأخرى».
لكنّ التماس الوحيد بين هاتين الكتلتين لا يكون إلاّ في مستوى العلاقة بين الشّخصيّتين الرّئيسيّتين، «سحر» و»عبداللّه»، وبين «سحر» و»طلحة الإرهابي» في الصفحة الأخيرة من الرواية.
تتحرّك هذه الشخوص في فضاء لا يعيّنه السارد. فالسارد يتحدث عن المدينة التي يتكرّر ذكرها مرّات عديدة، فقد تكون هذه المدينة تونس أو القاهرة أو طرابلس أو أيّ مدينة عربيّة يهدّدها الإرهاب، ولا تُعيّن هذه المدينة إلاّ بزمنها الثوري، وهذا الزمن الثوريّ في حدّ ذاته ليس مُعيّنا، إذ لا نجد تواريخ ولا يذكر السارد أيّاما بعينها، ويكتفي بإشارات وإيحاءات لا ترتقي إلى مستوى التعيين. ولعلّ الكاتبة أرادت من خلال هذا الاختيار في مستوى الكرونوتوب أن تقول إنّ الإرهاب عندما ينتشر لا يكتفي بمدينة بعينها ولا بزمن بعينه، فالإرهاب أعمى يضرب سائر المدن وفي كلّ لحظة.
رواية سياسيّة بامتياز، فالكاتبة على لسان ساردها ومن خلال البنية العامة التي ارتأتها تندّد بالعنف والإرهاب السياسيّ. فهذه المرأة الشابة التي تزوّجت رجلاً اختار في بداية حياته نهج الجماعات السلفيّة الجهاديّة رفضت هذا الزوج وأدركت أنّها هي المتضرّرة الأساسية من هذا الزّواج الذي لم يثمر إلاّ الضّلال والعمى، والولد الضرير الذي كان ثمرة هذا الزواج يحمل هذه الدّلالة الرّمزيّة، ذاك أنّ زواجاً بالإرهاب لا يثمر إلاّ العمى ولا يمكن أن يثمر نسلاً معاً. لكنّ الكاتبة تركت الباب موارباً كما يُقال. فباب التّوبة لم يوصد أمام هؤلاء الشبّان الذين غُرّر بهم. ذاك أنّ عبداللّه، هذا الإرهابيّ القديم أعلن توبته ودخل في صراع مع تنظيمه الإرهابيّ وخفق قلبه من جديد لهذه الزوجة الوفيّة وغمرته مشاعر الأبوّة.
هذه المزاوجة بين المدارين الحكائيين، الاجتماعيّ والسياسيّ، تحمل دلالة خاصّة. فالكاتبة تطرح قضيّة الإرهاب من موقفها النسويّ، إذ ترى أنّ المرأة هي المتضرّرة الأولى من الإرهاب وهي التي تكون دائما ضحيّة العنف، لكنّها باسم الحبّ والعواطف النبيلة تظلّ مستعدّة دوماً للصّفح والعفو.
الرّواية ثريّة بالمواضيع التي طرحتها واختارت لها موضوع اللحظة التاريخيّة، فمن المفارقات العجيبة أن تقترن هذه الثورات التي رحّب بها الناس لتغيّر حياتهم تقترن بالعنف والإرهاب. لكنّها ثرية بالإشكاليات التي تتعلّق باللغة والأساليب السرديّة التي اختارتها المؤلّفة وتضعها في مناخ رومانسيّ من خلال رؤيتها الطوباويّة للعالم، وقد تُتاح لنا مناسبة أخرى لتحليلها.