الجبير… وسياسة عكس السير

د. محمد بكر

تمضي مملكة آل سعود قدُماً في العزف على وتر التفجير السياسي للمنطقة المفجرة أصلاً، وتغرّد خارج سرب التوافقات الدولية، وتقدّم من خلال التصريحات الأخيرة لوزير خارجيتها عادل الجبير من موسكو صورة من الهذيان السياسي والتمنطق بلغة المراهقين، فأن يستمرّ الحديث السعودي عن الشرعية وتقرير مستقبل رؤساء وأنظمة سياسية بعد سنواتٍ من الاشتباك والكباش قدّم فيها السعودي جلّ إمكاناته ودعمه للمجاميع المسلحة في الداخل السوري، لتحقيق وإنجاح المهمات الأميركية التي لم تفض إلى إحلال النتائج وفق الموضوع أميركياً لا ميدانياً ولا سياسياً، فهذا يعني أنّ السياسة السعودية فيها ما فيها من «العرج» السياسي وضعف الرؤية السياسية والقراءة المثقوبة للحاصل على مستوى المنطقة يؤهّلها إلى حجز دور هامشي في المسلسل الدولي الذي يجري العمل دولياً على صياغة نصه بأقلام الجميع، وتصوير مشاهده حيث الجغرافية التي يتنامى فيها الإرهاب، هذا الإرهاب الذي أصبح العامل الجامع لكلّ المنخرطين في تلافيف ما تمّ تصنيعه على مستوى المنطقة، والمحرّض لنقاط التقاطع والتلاقي، ولا سيما بعد تدحرج كرته إلى مطارح خارج خارطة معدّيه ومموّليه ومشغليه هذا من جهة، وما أفرزته لعبة الأمم من متغيّرات إقليمية ودولية جديدة كانت خارج الحسابات الأميركية لجهة فشل المبتغى والعلاج المأمول من الوصفة المسماة «ربيعاً»، لم تفلح في تحقيق الأهداف الاستراتيجية من جهة أخرى.

كثيرةٌ هي المحاولات التي سارعت فيها مملكة آل سعود خلال سنوات الحرب السورية لشراء المواقف الروسية وإحداث «انقلاب» في السياسة الروسية الداعمة للدولة السورية، وفي زيارتين للمدعو بندر بن سلطان قدّمت خلالهما المملكة العروض السياسية للجانب الروسي لاستيلاد الحيادية والامتناع عن التصويت في مجلس الأمن، في محاولة لتمرير قرار دولي تحت الفصل السابع وشرعنة التدخل العسكري في سورية، لم يعد منها رئيس الاستخبارات الأسبق إلا بخفي حنين، كلّ تلك الرسائل لم تصل مدلولاتها السياسية للجانب السعودي، الذي استمرّ في ذات سلوكه السياسي وطريقة تعاطيه مع روسيا، فمع وصول الوزير الجديد الجبير إلى منصب الخارجية، لم يتعلم الدرس، وفي أول زيارة له إلى القاهرة وما أدلى به من تصريحات حول ما سمّاها الجهود التي تُبذل مع الروسي للتخلي عن دعم الأسد، إذ لم تكد تغادر تلك التصريحات شفاه الجبير حتى جاء الردّ الروسي كصفعة ثالثة على الخدّ السعودي «بعد صفعتي بندر»، لجهة ما أعلنه بوتين يومها بأنّ روسيا ستبقى داعمة للدولة السورية وموقفها حيالها ثابت لم يتغيّر.

إنّ عودة الحديث السعودي اليوم عن الشرعية، ومستقبل الرئيس الأسد، وتقديم المملكة نفسها محامياً للدفاع عن الشعب السوري، وفرض الخيارات على القيادة السورية، ولا سيما بعد فشل أدواتها في الداخل السوري عن تحقيق جوهر ما تصدّرت له من مهمات أميركية من جهة، وبعد توقيع الاتفاق النووي بين إيران والسداسية الدولية من جهة أخرى، دافع ويدافع عنه الأميركي بشراسة منقطعة النظير وما انفك عن الترويج له كخيار أفضل على الإطلاق أدرك فيه العقل الأميركي المدبّر والمخطط أنّ النيل من الجمهورية الإسلامية بات من المستحيلات، لا سيما أنّ أحداً فيها لن يتنازل عن سيادة بلاده لا في القيادة ولا في المعارضة، بحسب ما أعلنه أوباما في خطابه الأخير في الجامعة الأميركية بواشنطن، إنما يشكل نسفاً للعمل السياسي الدولي الذي يجري تحضيره، وتسميماً للطبخة الدولية التوافقية التي بدأت تُبارك دولياً، ومن هنا نقرأ ونفهم البيان الأخير الصادر عن مجلس الأمن الذي يدعم مهمة دي ميستورا والأهمّ تشديده على عملية سياسية يقودها السوريون وحدهم بما يحفظ وحدة الأراضي والسيادة السورية، هذا البيان الذي جاء في اعتقادنا ترجمة عملية لتوافق الكبار أعلن فيه أوباما أنّ حلّ القضية النووية سيفتح آفاقاً لمناقشة القضايا الأخرى، ولا سيما سورية، في حين أكد لافروف أنّ التحالف الذي طرحه بوتين لمواجهة الإرهاب يلقى اهتماماً كبيراً على الساحة الدولية.

إنّ تداعيات الاتفاق النووي، ومنعكساته وتجلياته على المشهد السياسي برمّته، المؤسّسة لأرضية دولية تجمع الأفرقاء والخصوم وهو ما بات يشكل المقتل والمحرّض الرئيس لذلك الامتعاض والهيجان الذي يعتري المملكة وهي ترى بعين الحُرقة كيف استطاعت منافستها كسب التوافق السياسي مع خصومها وقدّمت نفسها لاعباً أساسياً على مستوى المنطقة، وسيكون على حساب ترحيلها إلى خارج اللعبة السياسية ، إضافة إلى تراكم الفشل السعودي في أكثر من ملف وآخره الملف اليمني، والذي يجب أن يرسّخ حقيقية عدم جدوى السياسات التصادمية والعنفية التي تنتهجها المملكة، وبعد جملة من الحقائق التي أفضت إلى صياغة رؤية دولية موحدة حول ما أفرزته الحروب في المنطقة من إرهاب، ضرب الداخل السعودي في غير موقع وبعث بجملة من الرسائل لا يزال السعودي يعمي العيون عن مدلولاتها وأبعادها، أمام كلّ ذلك، فإنّ استمرار الحديث عما بات دولياً خلف الظهر، ومحاولة وضع العراقيل على سكة القطار السياسي الدولي الذي يتهيأ للمضيّ نحو محطة الحلول السياسية والتوافقات الجامعة بوقود الرابح رابح ، ووضع الشروط المسبقة، إنما يدلل على مستوى الخلل في العقل السياسي السعودي والمنسوب الصبياني المرتفع في الأداء السياسي للمملكة، لن ينفع معها الزعيق والصراخ والجري عكس السير، فالقطار الدولي يتهيأ للانطلاق على قاعدة «إما اللحاق بالركب أو تبقى وحيداً ومشكلاتك وأزماتك وانفصامك ودواعشك التي لن تبقي منك ولن تذر».

كاتب سياسي فلسطيني

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى