مثقفون عراقيون: الثقافة في العراق اليوم عرجاء… والتغيير يأتي من الاهتمام بالوعي
صفاء ذياب
منذ أسابيع، يفور الشارع العراقي ليقف ضدّ الفساد والمحاصصات الطائفية. مدنيون خرجوا إلى الشوارع في غالبية المدن يطالبون بالخدمات ومحاسبة الفاسدين. غير أن هناك مفصلاً مهماً لم يُبحَث عنه حتى الآن، الا وهو الشأن الثقافي الذي يعشّش الفساد في كلّ مفاصله.
وزير الثقافة العراقي الجديد فرياد راوندوزي، لم يغيّر شيئاً من بنية الوزارة، على رغم أمل المثقفّين بتسنّم وزير مثقف له باع في الصحافة والأدب، غير أن كل ما فعله هذا الوزير أنه غير مناصب الوزارة في ما بينها، فنقل مديراً عاماً من دائرة إلى أخرى، وأعاد مديراً إلى منصبه مرة أخرى، وهكذا، وكأن شيئاً لم يحدث فعلى رغم تغيّر الحكومات العراقية منذ عام 2003 وحتى الآن، إلا أن عمل وزارة الثقافة العراقية لم يتغير، بل كل ما يجري تبدّل مناصب المسؤولين والمديرين العامين في ما بينهم، حتى غدونا نعرف مقدّماً، ما الذي سيحدث مع كل تغيير… وكنا قد نشرنا قبل سنة تقريباً من تسلم راوندوزي منصبه رسائل من مثقفين عراقيين يطالبونه فيها بالتغيير الحقيقي لأنه مثقف وقريب منهم.
كيف نقرأ مشكلات المؤسسة الثقافية الرسمية العراقية؟ وما الحلول التي يجب اتباعها لإحداث تغيير حقيقي يساعد الثقافة العراقية في النهوض بنفسها من جديد؟
لا سيادة للثقافة
عمار المَرواتي يرى أن خلل الأداء في وزارة الثقافة يقوم على محورين أولهما عام، إذ تشترك فيه هذه الوزارة مع الوزارات العراقية كافة من حيث الأداء الضعيف المحكوم بالمحاصصة المعرقلة كلّ تقدم، فلم نرَ وزارة قامت بنقلة نوعية في ديوانها، أو في مديرياتها المنتشرة في عموم محافظات العراق. وثانيهما: خاص مرتبط بالوزراء الذين تعاقبوا على وزارة الثقافة، فلم يأتِ وزير حاملاً في رأسه برنامج عمل واضحاً، ومدروساً وخاضعاً للتغيير، والنقاش العلمي المخلص، فضلاً عن إثقال كاهل الوزارة بموظفين كثر بعيدين كل البعد عن الثقافة، وفهم دورها في بناء دولة، بعد بناء الإنسان فيها.
ويضيف المرواتي أن أحد الأخطاء التي وقعت بها الوزارة، إنشاء بيوت للثقافة في المحافظات. نعم كانت هذه البيوت ملجأ لكثيرين من الذين وجدوا أنفسهم من دون مصادر رزق بعد حلّ وزارة الإعلام. ولكن الطامة الأكبر تمثلت في إسناد إدارات تلك البيوت ـ غالباً ـ لأناس لا علاقة لهم من قريب أو بعيد بالثقافة أدباً وفناً وجوهر حياة.
«إن المتابع للعملية السياسية وأعود هنا لمبدأ المحاصصة المعرقل الأساس، يرى بوضوح نظر الأحزاب إلى هذه الوزارة نظرة الدونية، وكأنها وزارة الجذام! وهذه النظرة جاءت من أحد أمرين حلوهما علقم: فإما أنها لا تدر الأرباح كالنفط والكهرباء وغيرها مما أسموها سيادية! أو لأنهم لا يحترمونها أساساً وكل حديثهم عن الثقافة وأهميتها للتشدق وتقديم أنفسهم على أنهم يفقهون، وفي حقيقة الأمر فإنهم ينظرون إليها وإلى المثقفين بعين الارتياب، وما الفنون والآداب عند أكثرهم ـ سأقولها بكل صراحة ـ إلا شكل آخر من أشكال الدعارة، وأن الذين يتعاطونها أناس مارقين ولا أريد أن أقول كافرين..!».
ويطالب المرواتي المثقفين الحقيقيين بأن يقوموا بدور أكبر في تصحيح هذه الصورة وفرضها، كل من موقعه، وعلى اتحاد الأدباء الدور الأكبر في هذا، وربما يكون أحد الحلول أن تجعل الحكومة بقرار، اتحاد الأدباء مجلساً ورئيساً بمنصب النائب الأول للوزير لكي يكون التشاور ملزماً، وهذا سينعكس على كل نشاطات الوزارة من مهرجانات وفعاليات، وسياسة تثقيف عامة قدر المستطاع في عالم الفضائيات والإنترنت.
مناصب كاذبة
الناقد والروائي عباس خلف علي لا يعترف بوجود خطأ في النظام المؤسساتي، مؤكداً أنه لم يكن لدينا نظام مؤسساتي لكي نقرأ حركته ومساره وتوجهه. إنما هناك إقطاعيات منتشرة بأسماء وعناوين شتى تعصف بهذه الوزارة منذ 2003 ولحد الآن، وبالتالي انعكست هذه المظاهر السلبية بشكل فوضوي على أداء ومهمات طبيعة عمل الوزارة وخلق فجوات واسعة بينها وبين الثقافة، فلم نجد وزارة بالمعنى الحقيقي تمارس دورها الحضاري والتنويري، بل بقيت وزارة هامشية عاطلة ومشلولة وغائبة عن الوعي الثقافي، وما يحتاج إليه من برامج وخطط أساسية في البناء والتطوير والتحديث، اكتفت بارتمائها في أحضان القرار السياسي وتلبية أهدافه ومراميه والترويج لهذه الفئة أو تلك، أما العناوين داخل الوزارة فباتت معروفة بأن غالبية من يشغلونها لا صلة لهم من قريب أو بعيد بالشأن الثقافي، بل تتمثل في أشخاص لا هّم لهم سوى اللهاث وراء المنافع الشخصية والاستحواذ على المكاسب والتمتع بالسفر المجاني وحضور المؤتمرات، ولهذا لم تستطع الوزارة وهي المعنية بإرث وحضارة بلد أنتج أول حرف في العالم سنة 3500 ق. م من أن تفتح المسارح ودور السينما في بغداد والمحافظات وتعيد إليها نظارتها المفقودة، أو تقيم مهرجاناً وطنياً فنياً وإبداعياً يليق بِاسم بغداد ووصل الحدّ إلى درجة إنها أدارت ظهرها عن المطبوع العراقي ولم يعد يهمها حضوره في المحافل الدولية والإقليمية لمعرض الكتاب، ناهيك عن دورها الهزيل في ما يسمى بقصور الثقافة في المحافظات التي أضحت عبئاً على الثقافة فيها.
وإذا أردنا الخروج من هذا المأزق والارتقاء بعمل مستوى وزارة الثقافة وجعلها فاعلة ومؤثرة في محيطيها العربي والدولي بحسب رأي علي، فيجب أن تكون من ضمن الوزارات السيادية في البلد وإبعادها عن المحاصصة والولاءات العرقية والطائفية والحزبية، وتشكيل برلمان ثقافي واسع يشمل كل الطيف الثقافي ومكوناته الإبداعية، يتولى بنفسه عملية اختيار الوزير وإدارة مهام الوزارة وشؤونها المختلفة… فـ«فهل من الممكن أن يتحقق ذلك؟».
حروب الثقافة
الكاتب جبار وناس يبيّن أنه علينا أن نحدّد القيمة الاعتبارية والمكانة المتصورة في ذهنية من يمسكون بمقود السلطة في العراق، وهنا نكون بمواجهة السؤال التالي: هل للثقافة أثرها الفاعل في المجتمع من حضور حيّ في برامج الحكومات التي تعاقبت على دفة الحكم ومنذ التغيير2003؟ وهل شاهدنا معلماً ثقافياً تم إنجازه يصبّ في مصلحة الثقافة في بغداد أو أي مدينة من المدن العراقية؟ هل شاهدنا مسؤولاً في الدولة من كبيرهم إلى صغيرهم وضع في سلوكياته أو في أدنى اعتباراته مكاناً خارج حدود السلوك الحكومي واعتبارات المراسيم الحكومية وفق مبدأ إسقاط فرض أو وفق المنطق التسويفي الشعبي كفيان شر مله عليوي ؟
ثم بعدئذٍ نتحول إلى التصريف العملي لآلية التعامل مع مفهوم المؤسسة الثقافية من قبل الحكومة ووزارة الثقافة، باعتبارها حصيلة التأسيس الخطأ المنبثق من ترسيمة طائفية ترسو على من تكون هذه الوزارة البتراء من حصة حزبه وأشياعه ولهذا تنتفي عندها التأسيسات القيمية الحقيقية لدور الثقافة الحقيقي أيضاً ووفق هذه الحصيلة، فعلامَ نحصل؟
ويجيب: طبيعي سيكون العمل وفق مترتبات الهجنة الطائفية وروادها من الجهلة ومنتهزي المناصب والمحسوبيات القبلية والحزبية، وعندها يختفي دور القائد الفعّال ومن يحمل ثراء المثقف الناقد الحقيقي ومن يمسك بخرائط المنهج الصحيح عملاً وسلوكاً وتنفيذاً، ومن هنا ومنذ عام التغيير الدراماتيكي ونحن من محنة إلى محنة أكبر ورصيد الخسارة يتسع بمقدار حالة الازدراء والإهمال المتعمد من قبل السلطات حيال دور الثقافة، فأين هي المشاريع الثقافية؟ وأين دور المؤسسات الثقافية في المحافظات؟
طبيعي الأمر يثير الضحك حينما تجد الفنانين والأدباء يفترشون تخوت المقاهي ليناقشوا أحوال منظماتهم، إذ لا مكان مخصصاً لهم، والقائمة تطول لتثير في دواخلنا الألم المرير، ترى من يساعد في نهوض الثقافة في العراق كي ما تكون عاملاً مهماً في مسيرة إعادة بناء هذا البلد بعد أن بدت ضواري الفساد الروحي والمادي تأكل في خواصره؟
الأمر يبدو كبيراً ولكن ليس بالمستحيل إذا ما أخذنا بالاعتبار الآتي: الإيمان الحقيقي بعامل الثقافة سلوكاً وفعلاً وتطبيقاً ـ الإيمان الراسخ بهذا الدور من قبل القائمين على تنفيذ وتصريف الفعل الثقافي بعيداً عن مزايدات الطوائف والقبلية والتعامل مع الفهم الثقافي بروح مدنية راسخة من فهم عميق بروح المواطنة والانتماء الحقيقي لهذا البلد ـ إيجاد آلية في تولي من هم في صلب الثقافة وروحها الكبيرة، محاولة حقيقية في إعادة الاعتبار لرموز الثقافة الوطنية وممن شكلوا ما يمكن نسميه بالمثال الثقافي وساهموا في إيجاد التساؤل الحق في الكثير من السياقات التي شهدها البناء الوطني ومنذ تأسيس الدولة في العراق، الشروع في تأسيس المجلس الأعلى للثقافة ليكون الموجه والراسم الحقيقي لخريطة الثقافة وبمختلف صنوفها بعيداً عن احتكارات الدولة وسلطانها الطائفي المقيت، الاستفادة من تجارب الكثير من الدول وممن عانت من ويلات الحروب وكيف خرجت من أثار هذه الحروب لتعطي لدور الثقافة في إعادة بنائها قصب السبق المعلى.
ثقافة عرجاء
السلطة من وجهة نظر الشاعر أحمد ضياء تمارس أمورها التعسفية عبر عدد من الاشتغالات التي أخذت تمدّ جذورها بين كل المؤسسات، وللأسف الشديد أخذ مثقفون كثيرون الانزواء إلى هذا القالب والتشبث به. فأصبح لدينا مثقف سلطة، ومثقف منفصل وهي مرحلة أزمة، لما يزل العراقيون يتعكزون على أسسها ولا يمكن لدارس هذه الحقبة من المراوغة بهذا الشيء، كما مارسها السالفون.
هذه الأعمال الرخيصة يمارسها الآن عدد من مدّعي الثقافة، وهذه البنية لما تزل تحمحم في بطونهم. للتعريج على مشكلة الثقافة ينبغي أن نضع إحصاءات كثيرة، إذ من أين نبدأ الولوج لإحصاء الفساد الثقافي وحصره، فمنذ الانتقال إلى الدولة المدنية وبعد سقوط الأصنام لم نرَ أيّ ملامح تدعو إلى تطور الأفاهيم الثقافية، بل بقيت مكرسة على بعض المتبجحين والمتخذين من الثقافة واجهة اجتماعية منها وإعلامية، وهؤلاء المعنيون في الشأن الثقافي بشكل عام والشعري بشكل خاص وحصري، نراهم انفكوا من الشعر وأخذوا ينهمكون بأمور الإعلام في سبيل تصدير أسمائهم كشعراء فمن خلال الإعلام تم تسليط الضوء عليهم، إلا أنهم لو وضعوا تحت مجهرية النقد، فماذا سيرشح من خطاباتهم الاستيطيقية؟
للأسف، الثقافة العراقية الآن عرجاء، تحاول أن تأخذ عكازها بمبدعيها الحقيقيين، إلا أن المتزلّفين للسلطة والأكثر قرباً، هم من يحظون بهذه التراتبية الشنعاء، وكأن الثقافة الآن أصبحت توريثاً للأبناء، ناهيك عن فسادهم اللوجستي. لكي نصنع باباً جديداً يعنى بمثقفين حقيقيين، ينبغي غربة الواقع الثقافي والحذو بنظام يلزم المثقفين عدمَ التملق للسلطة، وألا يكون ذيلاً لبعض المتهتكين والراضخين لأجل المال.