لماذا تخشى الولايات المتحدة «المنطقة العازلة» في سورية…؟
سومر صالح
منذ أواسط العام 2012 وتركيا تطرح مشاريع إقامة «منطقة عازلة» على الحدود مع سورية، لكنّ الولايات المتحدة لم تبدِ الحماسة المطلوبة لهذا المشروع بل في أحيان كثيرة تلكأت عن الدخول في نقاشات إقليمية حول هذه النقطة، رغم أنها هيأت أرضية عسكرية لها في الأردن تحت مسمى «قوات الأسد المتأهب» لتنفيذ هذا المشروع جنوباً وتركيا الأردوغانية قدمت أوراق اعتمادها لتنفيذ هذا المخطط شمالاً ولكن بغطاء أميركي.
ومع نهايات العام 2013 انقلبت الصورة جزئياً فكلما تقدّمت تركيا خطوة باتجاه إنشاء منطقة عازلة في سورية، تراجعت بعدها الولايات المتحدة خطوتين إلى الوراء. وعندما يصرّح مسؤول تركي بحصول اتفاق على إنشاء تلك المنطقة، تسارع الإدارة الأميركية إلى توضيح سوء الفهم مباشرة. وكما بات معلوماً فإنّ الولايات المتحدة، ومن خلفها فرنسا، أبدت استعداداً لعمل عسكري ضدّ الدولة السورية في نهاية العام 2013 لكن تمّ تفاديه بتوقيع سورية على اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية وصدور القرار 2118.
إذاً الهواجس العسكرية من قوة الجيش السوري وامتلاكه قدرة الردع الجوي ليست السبب الكافي لإحجام الولايات المتحدة عن تنفيذ تلك الفكرة من دون إغفال عامل القوة السورية طبعاً، لكنّ الأمر أعمق وأشدّ تعقيداً، فالمنطقة العازلة تعريفاً هي مساحة جغرافية من أراضي دولة ما تحدّدها الأمم المتحدة أو أطراف دولية بغرض السيطرة عليها عسكرياً وفرض الحماية والوصاية الأمنية عليها تحت مسمى «حماية السلم والأمن الدوليين»، وهو حقيقة تنفيذٌ لأجندات سياسية دولية وإقليمية، وهو أمر غير متاح في الحالة السورية بسبب الفيتو الروسي ـ الصيني المتوقع. هنا يطرح السؤال المهمّ: هل تمتلك الأطراف الدولية قدرة فرض منطقة عازلة في سورية لتفادي الفيتو الروسي ـ الصيني، بمعنى تشكيل تحالف دولي مشابه لحلف واشنطن الذي قام بغزو العراق العام 2003؟ الجواب ببساطة يكمن في حسابات الربح والخسارة أميركياً، فالمنطقة العازلة هي مطلب إقليمي ـ تركي ـ خليجي للضغط على سورية سياسياً وعسكرياً، بينما هو تفصيل في الصراع الجيوبولتيكي الروسي ـ الأميركي الممتدّ على جغرافيات أوسع وقضايا أعمق، انطلاقاً من سورية وأوكرانيا وبحر البلطيق، وصولاً إلى حدود روسيا الأوروبية وتمدّد الدرع الصاروخية الأميركية هناك.
انطلاقاً من هذه الفرضية سأقدّم قراءة سياسية تاريخية تشكل أحد هواجس الولايات المتحدة الأميركية في محاولة فرض منطقة عازلة في سورية شمالاً أو جنوباً. ففي العام 1960 حاولت الولايات المتحدة الأميركية قلب نظام الحكم في كوبا، عبر محاولة فاشلة لميليشيات كوبية ومرتزقة درّبتها وكالة المخابرات المركزية الأميركية لغزو جنوب كوبا والإطاحة بالرئيس الثوري فيدل كاسترو، بدعم جوي أميركي واشتراك لأحدث المقاتلات العسكرية ب26 آنذاك، لكنّ العملية العسكرية فشلت فتوترت العلاقات الدولية وازدادت حدة الاستقطاب بين المعسكرين السوفياتي والأطلسي، على أثر تلك المحاولة الفاشلة، وترافق ذلك مع سعي حثيث أميركي إلى تطويق الاتحاد السوفياتي نووياً عبر نشر صواريخ IRBM في بريطانيا ضمن مشروع «إميلي» سنة 1958 ونشر صواريخ «جوبيتر» في إيطاليا وتركيا سنة 1961، حيث أصبح بمقدور الولايات المتحدة ضرب موسكو نووياً. سارع الاتحاد السوفياتي حينها إلى تقويض المشروع الأميركي مستغلاً فشل العملية العسكرية الأميركية في كوبا، عبر إنشاء قواعد عسكرية له على الأراضي الكوبية بما يمكنه من استهداف الأراضي الأميركية مباشرة بالقدرة الصاروخية ذاتها، في ردّ مباشر على الاستراتيجية الأميركية، الأمر الذي اعتبره الأميركيون خطاً أحمر تجاوزه الاتحاد السوفياتي.
توترت الأجواء على إثرها ووصلت إلى حدّ مواجهة نووية بين الطرفين انتهت بإزالة قواعد الصواريخ السوفياتية في كوبا شريطة أن تتعهّد الولايات المتحدة بعدم غزو كوبا، وأن تقوم بالتخلص بشكل سري من الصواريخ البالستية المسماة «جوبيتر».
بالمقارنة مع الحالة السورية نجد تشابهاً كبيراً، فالولايات المتحدة الأميركية تعمل على تطويق القوة الروسية بمنظومات الدرع الصاروخية الأميركية، وتتمدّد رويداً رويداً إلى الحدود الروسية بشكل مباشر، فأنشأت منظومات لها في رومانيا وبولندا وهي تفاوض الدانمارك وأوكرانيا حالياً، وبدأت تتوسع جغرافياً خارج الحدود التقليدية إبان الحرب الباردة، فقرّرت ضمّ الخليج العربي أيضاً إلى نظام الدرع الصاروخية ناهيك عن تركيا و«إسرائيل»، أمر يعتبره الروس تهديداً لأمنهم القومي على مستويين: المستوى الأول عسكري يهدّد قوتهم النووية بشكل مباشر، والمستوى الثاني يهدّد نفوذهم الاقتصادي والسياسي في منطقة أوراسيا ومنطقة الشرق الأوسط.
هنا نعود إلى المنطقة العازلة في سورية لنقدّم مقاربة سياسية للأمر، فالولايات المتحدة تخشى من مشروع إقامة المنطقة العازلة في سورية لعدة هواجس موزعة على احتمالين رئيسين: الاحتمال الأول أن تقوم الولايات المتحدة بتنفيذ المشروع مباشرة وبقوتها العسكرية جواً وبراً وهو أمر له تداعيات دولية وإقليمية كبيرة لا تتناسب مع حجم المكتسبات المنتظرة، وخصوصاً في غياب تفويض أممي بالحرب أو غياب قرار دولي على شاكلة القرار 1441 الذي تذرّعت وتلاعبت به الإدارة الأميركية آنذاك لغزو العراق، ومن الصعب حينها التكهّن بردّ فعل حلفاء سورية في حال العدوان الأميركي، لكنّ المؤكد أنّ الولايات المتحدة ستخسر أوكرانيا وجورجيا مباشرة ومصالحها في أفغانستان ستتعرّض لانتكاسات وخسارتهما منطقياً لا تتناسب طبعاً مع إنشاء منطقة عازلة في سورية لإرضاء تركيا. الاحتمال الثاني أن تقوم الولايات المتحدة بتأمين غطاء جوي لمرتزقة درّبتهم هي بنفسها في محاولة فرض منطقة عازلة في سورية، وهنا تخشى الولايات المتحدة أن يتكرّر السيناريو الكوبي بمعنى أن تقحم الولايات المتحدة نفسها مباشرة وتفشل مرتزقتهم على الأرض في تحقيق نصر عسكري وهو أمر تضعه الولايات المتحدة في حساباتها، فشل سيقود إلى التدخل الروسي المباشر في صلب المعركة الدائرة في سورية في تكرار لأزمة الصواريخ الكوبية ورفع سقف الاشتباك الحاصل مع الولايات المتحدة، انطلاقاً من الساحة السورية، ورسم معادلات جيوسترايجية أقلها إجهاض الدرع الصاروخية الأميركية انطلاقاً من الجغرافيا السورية وهو أمر سهل من الناحية التقنية، لأنّ القراءة الروسية لمثل هذا الحدث هو عدوان مباشر على حليفتها سورية واستهداف مباشر لمصالحها وأمنها القومي.
عندئذ تسقط كلّ الخطوط الحمر المرسومة دولياً، أما إقليمياً وفي كلا الاحتمالين ستقرأ إيران في الدخول التركي عدواناً يتوجب الردّ عليه لأنّ حدود المشروع التركي لا تقف عند حدود المساحة الجغرافية للمنطقة العازلة بل تتعدّاه إلى نوايا عدوانية ضدّ الدولة السورية وفرض وقائع جيوسياسية تفضي في حال نجاح مغامرتها العسكرية إلى تقسيم سورية إلى كيانات سياسية على أسس دينية، إضافة إلى مذهبة الصراع الذي سينشأ عن واقع التقسيم الأمر الذي يرتب تداعيات خطرة على واقعها الديموغرافي الداخلي والإقليمي. لذلك ستكون كلّ الاحتمالات والسيناريوات مفتوحة إذا قرّرت تركيا أو الولايات المتحدة إنشاء المنطقة العازلة في سورية.
انطلاقاً من هذه المعطيات يبقى سيناريو المنطقة العازلة أميركياً أمراً غير منطقي لأنه يقوّض الأمن القومي الأميركي ذاته نظراً إلى حجم تداعياته الدولية على ميادين اشتباك رئيسية تعتبرها الولايات المتحدة رئيسية لإضعاف تنامي القوة الروسية وإجهاض ولادة المحور الأوراسي الآخذ بالتبلور.
تدرك تركيا جيداً تلك الحسابات الأميركية والإقليمية ولكنها ترفع السقف وتوتر المنطقة طلباً للحلّ بعدما أوصلتها الحسابات الأردوغانية إلى معضلة الخطر «الداعشي» الذي ولد من رحم المخابرات التركية. لذلك كلّ أصوات الطبول التي يقرعها أردوغان للحرب تبقى في إطار التغطية على نواقيس الخطر التي يدقها معارضوه في الداخل التركي، لتبقى سورية عصية على العدوان بفضل تحالفاتها التاريخية وثبات قيادتها على مبادئ الالتزام بتعهداتها الدولية ومصالح الشعب السوري.