الردع في قلب التفاوض
ناصر قنديل
– اتسمت استراتيجية محور المقاومة خلال سنوات الحرب المفتوحة التي كانت سورية ساحة الاشتباك الرئيسية فيها، بالتبدّل وفقاً لقراءة الحسابات والموازين، ففي مرحلة غير قصيرة كان الشق العسكري من المواجهة يقوم على الصمود ومنع تحقيق الأهداف التي يريدها مشروع الحرب التي تخاض بأدوات متعدّدة استخبارية وقتالية وبخلفيات تدخل ومساندة عبر الحدود تشترك فيها دول غربية كبرى على رأسها أميركا ودول إقليمية وازنة خصوصاً السعودية وتركيا و«إسرائيل»، وخلال هذا الصمود الهادف إلى إيصال جبهة الحرب إلى اليأس من تحقيق أهدافها بإسقاط سورية وعنوانها المدن الكبرى، كان لهجمات تكتيكية نوعية وظيفة إيصال رسالة القدرة على الانتقال للهجوم عندما يحين التوقيت المناسب، فهكذا كانت بابا عمرو، وهكذا كانت القصيْر، وكانت عملية فك الحصار عن حلب، وكانت عمليات حمص اللاحقة وبعدها يبرود.
– كان اليقين بأنّ الحرب تشتغل على استهلاك قدرات محور المقاومة وصولاً إلى نفاذ قدرته على الصمود وظهور مؤشرات الإعياء عليه وصولاً لبدء السقوط، ومقابله رهان معاكس على نفاذ الوقت المتاح للأميركي كقائد لجبهة الحرب، واضطراره عند توقيت معيّن إلى الانخراط في التسويات، وكان للرهانين منطقهما، فالحصار والعقوبات على إيران، ولاحقاً على روسيا، وحرب الأسعار في سوق النفط والغاز واستهدافها لمداخيل روسيا وإيران، كانت وظيفتها جميعاً تجفيف ينابيع الموارد التي يمكن أن تضخّ سلاحاً ومالاً في الشرايين السورية ويجعل الجفاف نفاذ الوقود ممكناً، وفي المقابل كان الاقتراب من موعد الرحيل الأميركي من أفغانستان بعد العراق يجعل من نهاية العام 2014 موعداً مناسباً لتوقع بدء نفاذ الوقت الأميركي منعاً لترك البرّ الآسيوي متاحاً لتكامل روسي صيني إيراني وصولاً إلى البحر المتوسط، من دون ولادة نظام إقليمي يجعل أميركا شريكاً في أمن الشرق الأوسط، بالتالي التيقن من ضمان مصالحها الحيوية فيه، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا عبر الانخراط بالتسويات، بينما كان لتسريع وتيرة البرنامج النووي الإيراني في مجال القدرة على التخصيب والتخزين للمواد المشعة الضرورية للبرنامج والممكن استعمالها في أيّ برنامج عسكري، الدور المحفز للشعور بقرب نفاذ الوقت لجلب الأميركي ومن ورائه الغرب للتسليم بعدم جدوى مواصلة المواجهة، والجلوس إلى مائدة التفاوض للحصول على ضمانات عدم امتلاك إيران للسلاح النووي، ليشتغل العاملان معاً على صناعة معادلة نفاذ الوقت الأميركي وجعل العام 2015 عام السياسة.
– نفذ الوقت الأميركي ولم ينفذ وقود محور المقاومة، وتمّ التوقيع على التفاهم النووي، كسقف أصعب لصناعة التسويات سيصير ما دونه محكوماً بتوازناته من جهة، وبضخ وقود إضافي في شرايين الصمود بعد البدء بفك العقوبات وتلاشي حرب الأسعار، ما يعني عملياً عبثية مواصلة لعبة الحرب، ويصير التوجه إلى التسويات في الملفات الإقليمية قدراً محتوماً على رغم ممانعة حلفاء واشنطن ومواصلتهم محاولات التشويش والسعي للتصعيد والرهان على إمساك أوراق قوة ولو من باب تحسين الوضع التفاوضي، خصوصاً في سورية واليمن.
– سعت روسيا وإيران إلى تسهيل التراجعات السعودية والتركية وتهيئة الأجواء لانخراطهما في التسويات، وكان القبول السوري بالجلوس مع مسؤولين سعوديين تلبية لدعوة روسية من جهة، وقبول الحوثيين بالتراجع التكتيكي أمام القوات الخليجية من جهة مقابلة، وقبول السير في هدنة عسكرية مع مسلحي الزبداني وريف إدلب، من جهة ثالثة، تعبيراً عن توجهه تقديم السلّم للتركي والسعودي للنزول عن الشجرة، لكن الدخول «الإسرائيلي» على الخط بتحذيرهما من الانفراد في التسويات والتهديد بلعب ورقة «جبهة النصرة» لتعطيل انخراطهما من جهة، وأوهامهما المبالغ بها عما يستطيعانه، تركيا في سورية والسعودية في اليمن، دفع المساعي الروسية والإيرانية لبلوغ طريق مسدود، فكان لا بدّ من الردع في قلب البقاء على خط التسويات، وجاءت معارك الزبداني وهجمات سهل الغاب وإنجازاتها، من جهة، وبدء الحوثيين حرب الكورنيت في وجه الدبابات الخليجية، رسائل ترسم الخطوط الحمراء لما تستطيعه «إسرائيل» و«النصرة» وما ينتظر الأتراك والسعوديين إنْ استأخروا الالتحاق بزمن التسويات.
– يتقن حلف المقاومة إدارة الميدان العسكري بمثل ما يتقن إدارة فن التفاوض، وفن الحرب، وفن المناورة وتقاسم الأدوار، وهذه هي وصفة النصر، الفارق هذه المرة هو أنّ نفاذ الوقود بات لعبة محور المقاومة والوقت مفتوح أمامه.