تطوّر طبيعيّ للتواصل المعرفيّ في إطار متناسق ومتكامل يفيد منه الأدب ويظلّ حيّاً

كتب حازم خالد من القاهرة: بدأ الانقلاب البشري الكبير مطلع القرن الخامس عشر، ويعرف بعصر النهضة الأوروبية. وكانت نقطة بدء التحول عندما تغيرت نظرة الإنسانية من الإطار المقدس لمنطق التصوّرات الأرسطي الذي كان سائداً وحصر مسار المعرفة الإنسانية في قالب التجريد والتأمل، إلى العلم التجريبي والدعوة إلى العلم الحسي بدلاً من العلم النظري. وكان التجلي الحقيقي عندما قدمت معارف أفلاطون وأرسطارخوس على مفاهيم أرسطو في مجال الفلك والفيزياء، ما مهّد لرد الاعتبار إلى كوبرنيكوس ونظريته القائلة بمركزية الشمس، تلك النقلة الكبرى في تاريخ البشرية، أو وضع العلم في مساره الصحيح. وهي الأساس الحقيقي لبناء الحضارة الغربية ومنها شهد التطور الإنساني تحوله الكبير عبر كتاب «الأورغانون الجديد» لمؤلفه فرنسيس بيكون، والأورغانون تعني الأداة ويقصد بها العقل البشري. وإبداع بيكون الحقيقي دعوته إلى جعل العلم في خدمة الإنسانية، ولا يتحقق ذلك بالعلم النظري إنما بالعلم التجريبي.

ومن هذه النقطة التحوّلية بدأت تظهر الآلة التي سدّت اختراعاتها ثغر الحاجات البشرية آنذاك، وكانت المطبعة من إفرازات هذه الانطلاقة الحضارية على يد الألماني يوهان غوتنبرغ، ومنها بدأ عصر تدوين المعارف الإنسانية على نطاق واسع.

هذا التسلسل في اختراعات الآلة لم يكن منطلقاً في فضاء تجريبي منفرداً بل كان يسير جنباً إلى جنب في تطوّر علوم أخرى أيضاً، أوروبية المنبت، مثل الفنون التشكيلية على يد بيكاسو والفلسفة على يد جون كالفن، والسياسة على يد رائد الفلسفة السياسية ماكيافيللي، وهو التسلسل المنطقي لطبيعة الأمور حينما يُراد إلقاء نظرة على علم من العلوم أو صناعة من الصناعات فلا تجتزأ من السياق العام لتنامي المعرفة.

بين هذه المعارف كان تطور صناعة الطباعة حتى مجيء عصر الصحافة، والصحافة ليست منافسة للكتاب فكلاهما مسار من مسارات توصيل المعرفة الإنسانية وهما متكاملان وليسا مضادين أحدهما للآخر كما يحاول البعض تصوير الأمر.

تندرج في سياق ذاك التواصل التراكمي للمعرفة في مجال وسائط الاتصال بين البشر كل أجهزة الإعلام من إذاعة وتليفزيون وسينما وإنترنت واستخدامات الكمبيوتر، إلى آخر ما في هذا المجال من اختراعات تعد ثمرة وإنتاجاً طبيعياً لتطور عملية الاتصال المعرفي، وكلّها تسير في إطار متناسق ومتكامل وليس متناقضاً.

لفت الفيلسوف الألماني فالتر بنيامين توفي عام 1940 الأنظار إلى العلاقة بين الفن والتكنولوجيا، قائلاً: الفن ممارسة اجتماعية، وهو سلعة يشترك في إنتاجها ناشرون لتباع في السوق وتحقق ربحاً، ولذلك فإن الوسائط التي تخلقها وسائل الاتصال الحديثة تؤثر في رؤية الفنان وفي تشكيل عمله الفني، ومهمة الفنان أن يعيد النظر في أشكاله الفنية، وفي قوى الإنتاج الفني المتاحة له، كي يستطيع تطوير فنه، فالشكل الفني هو البنية المهيمنة السائدة في مرحلة اجتماعية معينة، وهذا يجسد قدرة الفن على تحريك الوعي الإنساني لكي يكون مبدعاً ويرى أن تحطيم الفصل بين الأجناس الأدبية يساهم في خلق علاقة اتصال جديدة بين الأديب والقارئ.

من هنا التساؤل عن أثر التكنولوجيا الحديثة في الفنون العربية الموجودة وهل يمكنها الإفادة من ذاك التقدم التكنولوجي الهائل؟ وفي السياق نفسه قال الناقد الراحل د. عز الدين إسماعيل: إن الأدب يتأثر بالإذاعة والسينما والتلفزيون، إلا أن أثرهما أقل عليه من تأثير الصحافة، كما أن هناك ما يسمى بالأدب الإذاعي والتلفزيوني، كذلك القصة الإذاعية والتلفزيونية والصحافية، ولكل من هذه الأنواع قوالب وسمات، أن لأدب الكتاب الصدارة والأهمية والمذاق فهو يستخلص ما في النفس والوجدان والعقل من انفلات، وسيظل الأدب حياً رغم أنه سيكون أقل انتشاراً من الأنواع الأخرى التي تفرزها وسائل الإعلام والاتصال، فالأدب كائن حي يستمد حياته من النشر وسعة الانتشار .

أمر طبيعيّ أن يكون للإذاعة والتلفزيون أثرهما في الأدب إنما ليس التأثير السالب كما قد يتبادر إلى الذهن بل هو أثر الإثراء والتنامي بفعل عامل التنافس الذي يجعل أي قطاع ما يشهد تنافساً حياً تدب فيه الحركة، متنبهاً يقظاً، لا سبات في خلجاته من شدة عملية التنافس.

الشاعر والمترجم رفعت سلام أن الأدب فن متماسك، والتقدم الهائل في تقنيات وسائل الإعلام لن يهدّده على نحو خطير، فهو يتيح مجالاً ضخماً من الإبداع للأجيال المقبلة وهو التاريخ الحقيقي للشعوب. الأدب باق، مثل الشعر.

يقول الفنان التشكيلي د. إياد محمد الصقر في كتابه «دراسات فلسفية في الفنون التشكيلية»: «إن القيم الجمالية ترتبط بالتكنولوجيا التي تقدم إلينا الأدوات التي تجعل المادة الوسيطة أكثر طواعية في يد الفنان. اهتم علم الجمال بتحليل طبيعة الوسيط الجمالي في كل فن على حدة. اهتم بتحليل الصوت في الموسيقى، وتحليل اللغة في الأدب، وتحليل طبيعة العلاقة بين الكتلة والفراغ في فن العمارة».

الناقد د. رمضان بسطاويسي يرى أن إدخال التكنولوجيا على عملية الكتابة، وظهور ما يسمى بالكتاب الإلكتروني، جعل بعض الأدباء يقدمون النص المرافق للوسائط المتعددة، أي النص الذي يتضمن الكتابة والصورة والحركة، وهذا لا يعني مجرد تغيير في الأداة التي يستخدمها الأديب فحسب، إنما تغيّر طبيعة الأدب ذاته، فلم تبق أداته فحسب إنما أضيفت إليها مؤثرات جديدة لم تكن مرتبطة بالأدب، ما يؤدي إلى عملية تثوير جذرية للإنتاج الأدبي لنواحي الدراسة والنقد والإبداع، وظهرت نماذج من هذه النصوص على الإنترنت، وقدمت بعض المؤسسات العربية بعض الكتب الإلكترونية، ولذلك فإن الأدب سوف يفيد من التكنولوجيا مثلما أفغادت الفنون الأخرى كالتصوير والموسيقى والسينما والمسرح.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى