كوكتو وبياف… قصة مودّة وتقدير وصفات جميلة متبادلة

كتب حسونة المصباحي: في الحادي عشر من تشرين الأول 1963 رحل فنّانان كبيران هما المغنيّة إديث بياف والشاعر والرسام والروائيّ والمسرحيّ والسينمائيّ جان كوكتو، العضو البارز في الأكاديمية الفرنسية، وكانا على علاقة وثيقة طوال أكثر من عقدين بعدما تعارفا مطلع الأربعينات من القرن الفائت.

كانت بياف تقول عن كوكتو إنه «رونسار العصر الحديث». ورونسار على ما نعلم هو أحد كبار الشعراء الفرنسيين في عصر النهضة واشتهر خاصة بقصائد الحب والغزل.

عام 1953 بعثت أديث بياف رسالة إلى كوكتو تقول: «عزيزي جان… طريف ذاك الشعور الذي ينتابني كلّما رأيتك، وهو حمايتك من خبث العالم كلّه لكني أتبيّن أنك أنت الذي ترفع من معنويّاتي، وتمنحني شيئا من الشجاعة لمواجهة العالم». أمّا جان كوكتو فكان يصف بياف بـ»المرأة صغيرة الحجم ذات الجبين البونابارتي». وكان يقول إن لها عيني بصير استعاد لتوّه نور البصر. وعقب حضوره إحدى حفلاتها، كتب: ««لم يبق منها شيء آخر سوى نظرتها، ويديها الشاحبتين، وجبين الشمع الذي يستدرج الضوء، والصوت الذي ينتفخ ويصعد، والذي يحلّ شيئاً فشيئاً مكانها، متعاظما مثل ظلّ على حائط لكي يعوّض في النهاية تلك الطفلة المجيدة الخجولة».

في 11 تشرين الأول 1963، وقبل الساعة السابعة صباحا، توفت إديث بياف نتيجة نزيف داخلي. وكانت آنذاك في السابعة والأربعين من عمرها. وللتو غطّى نبأ وفاتها على أخبار عالمية غاية في الأهمية، مثل الهجوم المسلح الذي شنته القوات الجزائرية بأمر من بومدين على المتمرّدين البربر في مناطق القبائل الجبليّة. وفي بيته في ضاحية «ميلي لافوريه»، قرب باريس، كان جان كوكتو يعاني حمى شديدة بعد إصابته بأزمة قلبيّة للمرّة الثانية على التوالي، وحرصت الخادمة على عدم إعلامه بخبر رحيل صديقته العزيزة خوفاً على صحته، وكان آنذاك في الرابعة والسبعين من عمره، وعندما بلغه الخبر في الحادية عشرة قبل الظهر، علّق قائلاً: «يمكن القول إن السفينة غرقت الآن!».

ثم انعزل كوكتو في مكتبه ليكتب بعض الكلمات في وداع التي كان يسميها بـ»الطفلة المجيدة الخجولة». وعندما زاره صديق قال له: «منذ الصباح وأنا أعاني الحمّى، وموت بياف ضاعف من سوء صحتي!». بعد منتصف النهار بقليل، فاضت روح ذلك الفنان المتأنق دوماً في لباسه وحركاته، وكان يرى أن الفن محبة وسخاء أو لا يكون. لذا كان يهبّ لمساعدة كلّ من تخذله الحياة من أهل الثقافة والفن، وينهض دفاعاً عن الذين يتعرضون للقهر والظلم. علماً أن أحد أنصار المقاومة الفرنسية هاجمه فيما كان يجتاز ساحة الكونكورد في باريس سيراً على القدمين، واعتدى عليه بالضرب.

ولد جان كوكتو في 5 تموز 1889 في قرية صغيرة من باريس، وكان في التاسعة من عمره عندما انتحر والده برصاصة في الرأس. ولعل هذا الحادث المريع جعل الطفل يلتصق بأمه ويحاول من خلال الشعر الذي شرع في كتابته باكراً أن يملأ الفراغ المريع الذي خلّفه غياب الأب. وبعدما فشل كوكتو أربع مرات في الحصول على شهادة الباكالوريا، انقطع عن الدراسة لينضمّ إلى حلقات الفنانين الطلائعيين، مصدراً مجموعة شعرية مستوحاة من «ألف ليلة وليلة» عنوانها: «مصباح علاء الدين». كما تعرّف إلى مارسيل بروست، وإلى الكاتبة الأميركية إديث فارتون، وارتبط بعلاقات حميمية مع المشاهير مثل بيكاسو وسترافينسكي ولوي أراغون وآخرين.

في مسرحياته، عالج كوكتو قضايا العصر الحديث من خلال التراجيديات الإغريقية القديمة التي كان شديد الافتتان بها. وخلال الحرب العالمية الثانية لم يستنكر الاحتلال النازي لبلاده، بل ارتبط بعلاقة صداقة مع أرنو بريكر الذي كان نحات هتلر المفضل وبسبب موقفه المتخاذل ذاك، هاجمه أحد أنصار المقاومة الفرنسية في ساحة الكونكورد، واعتدى عليه بالضرب حتى كاد يفقد عينيه. لكن في نهاية الحرب الكونية الثانية غضّت السلطات الجديدة عنه الطرف ولم تحاكمه.

كان لجان كوكتو الفضل في اكتشاف العديد من المواهب الأدبية والفنية، وهذا ما فعله مع رايمون راديغيه كاتب «شيطان في الجسد» التي يروي فيها قصة حب بين مراهق وامرأة شابة كان زوجها على جبهات القتال في الحرب الكونية الأولى. وبسبب جرأتها وتحدّيها أخلاقيات المجتمع الفرنسي، أثارت الرواية موجة احتجاج لدى القراء، غير أن كوكتو دافع عنها.

كما بذل كوكتو جهوداً مضنية لإخراج جان جينيه من السجن بعدما كان محكوماً بالمؤبد. وخلال الزيارة التي قام بها إلى مصر في الخمسينات، حرص على الذهاب إلى بيت طه حسين ليقبل جبينه قائلاً له: «جئت لهذا فقط!». وفي السنوات الأخيرة من حياته شعر جان كوكتو أنه لم يتمكن من فرض وجوده ككاتب أو كشاعر بين الكبار من مبدعي عصره من أمثال أندريه جيد وسارتر وظلّ ذلك يؤلمه حتى النهاية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى