الثامن من آب
كنت قد قرّرت ذات ليلة، و قد اجتاحتني لفحات الماضي، أن أبدأ بداية جديدة. أن أكذب كذبة النسيان، وأحاول تصديقها كي أستطيع الاستمرار. كي أنعم بعينين خاليتين من اللون الدامي، ووجه خالٍ من السواد تحتهما، لا يشبه دبّ الباندا. كي أتوقف عن شرب جرعات الماضي، وتظهر على ملامحي نتائج الافراط بالجرعة الذي يشبه إلى حدّ ما، آثار ما بعد شرب الكحول: انتفاخ العينين واحمرارهما، الصداع وجفاف الحلق على إثر النشيج.
قررت أن أرى العالم الحقيقي بعيداً عن نافذة الكتب، وأخرج من عزلتي. استيقظت اليوم وكلّي عزم على التغيير. وتطبيقاً لترّهات الأطبّاء النفسيين: «يتحسّن مزاجك عند الاهتمام بمظهرك الخارجي لأنه مرآة داخلك»!
نظرت للمرة الأولى في المرآة بعد تجنّبها قرابة سبعة أيام. يااااه، كم تغيّرت ملامحي! كم ظهرت على قسماتي علامات تقدّم السنّ، وأنا قانونياً لم أتجاوز العشرين بعد! انعكاسي يُظهر عانساً ثلاثينية فاتها قطار الزواج، وربما قطار الحياة أيضاً.
عقدت النيّة، وبدأت شنّ الهجوم على نفسي فأطلقت الصفارة الأولى لحملة التنظيفات المجانية لزجاج جسدي المكتنز بالغبار. تحسّنت قليلاً فتماديت أكثر وقرّرت أن أعود إلى إدماني القديم. فصنعت لنفسي قهوة مرارتها تقارب مرارة واقعي بقليل بعد انقطاع طويل عنها. بدأت تصديق الكذبة بشكل أفضل فزاد فخري بإنجازات اليوم إلى حدّ جعلني أطمع بإنجاز أكبر أعلّقه على حائط خيباتي. فرفعت ستائر نافذتي وسمحت للزائرة ذات الخيوط الذهبية بالتسلّل إلى وكري المعتم، على رغم أنني أستثقل ظلّها وأسخر من قدرتها على كشف كلّ مستور. لا أنكر أنها نالت إعجابي في هذا اليوم بالذات، لكنها لم تنله إلى الحدّ الذي يجعلني أخرج من عزلتي لألقاها. فبقيت أسيرة جدراني أراقب العالم عن بعد كطفلٍ منعته أمه من اللعب خارجاً، فجلس على حافة شبّاكه يراقب أقرانه!
غادرتني تلك الأشعة تاركة في نفسي أملاً أكبر في مستقبل خالٍ من الذكريات الرمادية. ومع رحيلها، هبط زائري المفضّل الذي أقضي يومي في انتظاره، وأفعل فيه ما يمليه عليّ. فاقترح عليّ أن أكتب بداية تفاؤلي، وأن أجعل من الثامن من آب الحدّ الفاصل ما بين الموت والحياة، وأن أبذل جهدي لجعل النسيان حقيقة حتمية أصل بها إلى السعادة. فما كان منّي إلا تلبية هذا الاقتراح، وها أنا بعد كبوتي أحاول من جديد وأنتشل بريق الأمل من كلّ بصيص نور!
مشوار الألف ميل… بدأ بخطوة!
لانا أبو جودة