قمرٌ في ليل الجليل!
نصّار إبراهيم
هناك، عند أعالي الجليل، امرأة كنعانية تتوسّد أحلامها تحت شجرة تين فوق السفوح المطلّة على البحر غرباً. انزاح شالها الأبيض فتهدّل شعرها مضيئاً كأغمار القمح. في عينيها أضواء شاسعة، سهول وشواطئ، وغابات من أطفال.
تقول إنّها في العقد السادس وأكثر. لكنّها نسيت أن تكبر فبقيت طفلة في العاشرة. ترسل وجهها نحو قمر الجليل المعلّق فوق عينيها، وتهمس: إلى أين تمضي في هذا الليل! البحر من أمامك وسفوح الجليل من ورائك. وأنا هنا أنتظر منذ ستين سنة. فابق هنا!
هناك، على صدر الليل العميق، كان قمر الجليل ينتظر كطفل هو أيضاً.
الأشجار المنسيّة على الهضاب تحاور الأفق. ومن هناك، تصعد أشجار السرو وتصعد. تميل قليلاً نحو البحر. تقول إنّها كلّ غروب تنتظر خبراً سيأتيها. وفي المساء تلملم أغصانها وتحضن رفوف العصافير واليمام، لتغفو وحيدة. تغفو على حكايات السرو وهو يودّع الريح الذاهبة جنوباً.
«يتعربش» القمر وجه الليل فيضيء بحزن فضيّ صفحة البحر في الأفق الغربي. تقول المرأة الجليلية: كلّ غروب، يغوص قرص الشمس كبرتقالة في البحر. يحدث هذا منذ ستين حولاً. لماذا لا تشرق الشمس من البحر؟
يقول القمر: لن تشرق الشمس من البحر إلّا إذا غيّرت الأرض دورتها!
تلفّ المرأة الشال على رأسها فتبدو كإلهة تنتظر. وهناك، وهنا تتناثرعلى التلال المقمرة أشجار اللوز والتين والصبّار والخرّوب. قالت: كم تبدو الأشجار موحشة بلا ناسها.
تمرّ المواسم. يزهر اللوز ويثمر، فيكون لوز أخضر ثم يجفّ. ثم يسقط ليجدّد ذاته. تزهر أشجار الصبّار ليلاً بزهور كالضوء. فتنبض أكواز الصبّار. ثم تنضج ثمّ تذوي.
تقول الجليلية الكنعانية: كم هي حزينة الأشجار بلا ناسها، تنتظر ضجيج الأطفال. كما تنتظر مع الندى البكر حبّات التين يد فلاح سامية. ولكن لا صوت، ولا مواقد. لا نار ولا دخان، لا ضحكات أطفال ولا بكاء، لا أغاني الأمهات يهدهدن مهود أطفالهن، لا صوت يدعو إلى كأس شاي، لا رائحة خبز القمح، لا صهيل حصان، لا صوت شبّابة شجيّ ولا ناي يعزف ليمسح قلوب العصافير في وحدتها.
فقط أشجار تداعبها الريح، فترتعش قليلاً ثم تصمت من جديد. ضاعت الدروب على السفوح بين الأشجار. تكاثفت عليها الأشواك وأيضاً القش. فبدت كذكرى ضحى بعيد.
نهضت المرأة الجليلية، سارت نحو الغرب، مدّت نظرها نحو البحر، همست: متى سيأتيني البحر بشراع يحمل فرحاً؟
انحنت على ذاتها وعادت إلى شجرة التين. أسندت ظهرها إليها، أحسّت بالدفء يسري في قلبها. فغفت تحرسها نقوش ثوبها الكنعاني المزيّن بأوراق العنب وأشجار السرو.
قمر الجليل لم يرحل غرباً. بقي معلّقاً هناك فوق السفوح ليضيء ليل امرأة جليلية نسيت أن تكبر. كانت تنتظر تحت شجرة التين. تنتظر أن يعود أطفال الجليل إلى أشجارهم التي لم تغادر مكانها. كانت تواصل دورة المواسم وتنتظر. يأتي ليل ويذهب، يأتي صباح ويمضي، تمر سنة، تمضي سنون. وما زالت تنتظر. لم يغادرها الأمل وإن غمرها الصمت مع كلّ غروب. وهناك، في ثنايا أشجار السرو، ما زالت تؤوي رفوف العصافير وعيونها لم تفارق البحر.
تقول المرأة الكنعانية الجليلية: ستشرق الشمس يوماً من البحر!