انتهى زمن المعجزات… الحلّ في النزوع نحو السببية

الياس عشّي

يعتمد العلم، كما يقول برتراند راسل في كتابه «حكمة الغرب»، على مبدأ السببيّة القائل إنه «إذا توافرت نفس الشروط المسبقة، ترتّبت عليها نفس النتائج»، في حين «أنّ الدين يمارس عمله في نطاق المعجزات، التي تنطوي ضمناً على إلغاء السببية».

ولم يتنبّه الغرب، وبخاصة بعد سقوط روما في القرن الخامس الميلادي، إلى خطورة هذا التميّز بين النسبية والدين، فسمح للكنيسة أن تأخذه إلى عصور ظلامية، وسكت عن التجاوزات التي ارتكبتها محاكم التفتيش، وتلهّى بسفسطائية لا جدوى منها، إلى أن استيقظ ذات صباح على حوافر عسكر محمد الفاتح، يدكّ أسوار القسطنطينية 1453م . فيما الكرادلة والقساوسة واللاهوتيون منهمكون في معرفة جنس الملائكة إنْ كانوا ذكوراً أو إناثاً.

سقوط القسطنطينية أعاد التوازن إلى العقل الأوروبي، وفرض سؤالات في غاية الأهمية. ومنذ ذلك الوقت بدأ عصر النهضة في الغرب، وبرزت السببية لتلعب دوراً كبديل من الغيبيات، وبدأ التخطيط الأوروبي ذو النزعة الاستعمارية لتأسيس شروط مسبقة تؤدّي في كلّ مرة إلى النتائج نفسها.

وحدث، منذ منتصف القرن التاسع عشر، أن أصيبت الإمبراطورية العثمانية المترامية الأطراف بالتفكّك والضعف، وصارت تلقّب بالرجل المريض. وراح الغربيون ينتظرون موتها لتقاسم تركتها، بل راحوا يؤسّسون لشروط تؤدّي حتماً إلى موتها. ووضعوا شرطين:

الشرط الأول: إحداث فتنة بين المذاهب والطوائف الدينية.

الشرط الثاني: اللجوء إلى الإرهاب لإثارة الرعب بين المذاهب والطوائف المتقاتلة.

شرطان يؤدّيان حتماً إما إلى التهجير، أو إلى التقسيم، أو إلى الإلغاء، أو إلى الثلاثة معاً، وهذا ما حدث في لبنان عام 1860، على سبيل المثال وليس الحصر، عندما نشب القتال بين الموارنة والدروز، وضع الغرب يده على القضية، وأعلن قيام متصرّفيتين، أيّ لبنانين لكلّ منهما هُويته الطائفية، ممهّداً بذلك لاتفاق سايكس بيكو الذي وُقّع بين فرنسا وإنكلترا بعد خمس وخمسين سنة من فتنة جبل لبنان، وبموجب هذا الاتفاق اللعنة، تعرّفنا إلى الكيانات.

المنطق البسيط نفسه المتّكئ على الشرطين السابقين، ساعد في تحويل الوعد، الذي قطعه بلفور لليهود بإنشاء وطن قومي لهم، من مجرد وعد إلى واقع أليم للغاية: تسلّل اليهود إلى فلسطين، ارتكبوا مجازر ضدّ الفلسطينيين، هجّروا، ارتفعت نجمة داود، بينما العرب اكتفوا بالأدعية، ولجأوا إلى الغيبيات، تماماً كما أرادها الغرب لهم، ما دفع نزار قباني ليقول:

الله يعطي النصر من يشاء

وليس حدّاداً لديكم يصنع السيوف

ولم يكن مستغرباً أبداً أن يمارس اليهود «شعب الله المختار» الوافدون من الجهات الأربع هرباً، كما ادّعوا، من محارق النازيين، أن يمارسوا على الفلسطينين اللعبة ذاتها، فارتكبوا المجازر ضدّهم، وصادروا أراضيهم وبيوتهم وزرعهم وضرعهم، ما أدّى، تبعاً للقاعدة السببية، إلى تهجير الفلسطينيين وتحويلهم إلى لاجئين منذ سبع وستين سنة… وما زالوا.

واليوم ماذا يجري؟

للحديث تتمّة…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى