لا بديل عن الثورة ضدّ أنظمة المحاصصة
راسم عبيدات
إنّ ما نشاهده في بيروت من حالة غضب جماهيري، هو أقرب إلى الهبّة الجماهيرية الواسعة، يشارك فيها اللبنانيون من مختلف مشاربهم وانتماءاتهم السياسية وتكويناتهم الطائفية والمناطقية مندّدين بالتقاسم الطائفي للنظام ومقدّرات الدولة، ومعربين عن رفضهم المطلق للفساد المستشري في كلّ مفاصل الدولة.
يطالب المحتجّون بإعادة تكوين النظام على أسس غير طائفية، وبأن تكون الدولة لكلّ مواطنيها ويتساوى فيها الجميع أمام القانون. دولة تعمل على تأمين الخدمات للجميع، لكنّ عجز النظام التحاصصي، على أساس طائفي ومذهبي، عن تأمين الاحتياجات والخدمات اللازمة والحيوية للمواطنين، وعدم قدرته على توفير الأمن لهم والحماية لاستقلال وسيادة البلد، يعبّر عن أزمة عميقة يعيشها هذا النظام.
وما يُقال عن الوضع في لبنان، ينطبق على دول عربية أخرى، ففي وقت تعجز فيه الحكومة اللبنانية عن رفع القمامة من شوارع بيروت وبقية المناطق، تعجز العراق عن تأمين الماء والكهرباء، وهذه النماذج تمتدّ حتى إلى حركات تحرّر تحت الاحتلال، لديها سلطة وسيطرة مدنية على مناطقها بشكل كلي أو جزئي، غزة والضفة الغربية نموذجاً، حيث العجز عن توفير الخدمات والاحتياجات للمواطنين، وكذلك الأمن والأمان، وهذا ما يعبّر عن عمق الأزمة البنيوية لهذه الأنظمة القائمة أو التي في طور التشكل والتكوين، وخصوصاً بعد ما سُمّي بـ«ثورات الربيع العربي»، ما يجعل تلك الأنظمة والكيانات خارج إطار العصر بقيمه ومعاييره.
علّمنا التاريخ أنّ الأنظمة الشمولية والديكتاتورية والتيوقراطية، هي التي يعشِّش فيها الفساد بكلّ أشكاله، حيث لا توجد رقابة ولا مساءلة أو محاسبة، ومثل تلك الأنظمة تسيطر عليها السلوكيات والممارسات اللامعيارية، حيث يتفشى الكذب والدجل والنفاق والمحسوبية والواسطة والغشّ وغيرها، ومن رحم ذلك تولد طبقة من الفاسدين بحيث تجري مأسسة الفساد وتعميمه، ويولد جيش من المرتزقة والمنتفعين غير المؤهلين أو المنتجين، ولكن بحكم المذهب أو الطائفة يكونون هم المتنفذين والمسيطرين على السلطة والقرار، وتغيب معايير العدالة والكفاءة، حيث لا قانون يحكم أو يعاقب.
باختصار، لا عدالة ولا مساواة ولا تكافؤ فرص ولا دولة مواطنة، وهذا ما يعمّق من أزمة المجتمع والتي قد تظهر على شكل انفجارات اجتماعية وتحركات شعبية ضدّ مثل هذه الطغم أو الأنظمة أو المذاهب، أو تنهار من داخلها، حيث تتعمّق الخلافات والصراعات بين أطرافها ومحاورها.
عندما سيطرت حركة «الإخوان المسلمين» على الحكم في مصر، وأعلت مذهبيتها وأيديولوجيتها فوق وطنيتها وقوميتها، وأرادت أسلمة السلطة والمجتمع والدولة وتفصيل دستور على مقاسها، دخلت في تناقض مع أغلب مكونات ومركبات الشعب المصري السياسية والاجتماعية، حيث أدى قصر النظر هذا إلى اندلاع ثورة شعبية عارمة أسقطت حكم «الإخوان».
إنّ تعمق المذهبية والطائفية في المجتمع يفتح المجال أمام توظيف الدين في خدمة السياسة أو بمعنى أدقّ تسييس الدين، وفي ظلّ عمليات التحريض والانقسام المذهبي والطائفي وتفتت وحدة المجتمع والدولة، تتكاثر الأحزاب المبنية على أساس مذهبي وطائفي، في حين نجد أنّ الدول المتقدمة صناعياً واقتصادياً وثقافياً، تفصل الدين عن الدولة وتمنع قيام الأحزاب على أساس ديني، لكونها ترى أنّ الدولة هي لكلّ مواطنيها.
أياً يكن الحزب الديني، لا يمكن له أن يكون طائفياً أو مذهبياً، وخصوصاً في الدول التي تخوض صراعات ضدّ المحتلّ كما هو حال حزب الله في لبنان مثلاً، فقد نجح هذا الحزب في استقطاب الجماهير التي التفت حوله، وقد شكل عنواناً وطنياً وقومياً جامعاً وموحداً، لأنه تعامل مع الدين كمنظومة قيمية وأخلاقية مجردة، وليس كنمط حياة ونهج مؤسس للأمور والشؤون الحياتية، لذلك نجد أنّ حزب الله هو الأقرب إلى النجاح والاستمرارية كحزب جامع وموحّد لكونه لا يتعاطى مع الدين على هذه الأرضية، في حين نجد الفشل عند حركة «الإخوان المسلمين»، حيث الفشل المدوّي بعد الصعود والسيطرة على السلطة بفترة قصيرة، والأمثلة كثيرة مصر، تونس، والآن تركيا، عندما أراد أردوغان أن يستحوذ على السلطة و«يؤخونها» ويفصّل دستوراً على مقاسات حزب العدالة والتنمية.
قد تثور ثائرة البعض عندما نقول إنّ الدين ليس عاملاً موحِّداً للأمة، فالأمور تكشفت بشكل واضح بعد ما يُسمّى بـ«الثورات العربية» ومعظم الحروب في البلدان العربية اليوم تجري على أساس مذهبي وطائفي، وبين أحزاب مختلفة ذات مرجعيات فكرية تقول إنها تمثل الإسلام الحقيقي، ولا ندري في إطار البحث عن هذا الإسلام كم سيُقتل من أبناء هذه الأمة، ولمصلحة من تُخاض حروب التدمير الذاتي.
ما يجري في بيروت الآن من انتفاضة شعبية تحت شعار «طلعت ريحتكم» ضدّ تجار ومافيات وأباطرة المذاهب والطوائف، وكذلك ما يحدث في العراق وما يجري من تململ كبير في فلسطين يؤجل انفجاره وجود الاحتلال، يثبت بشكل قاطع وملموس عمق الأزمة ومدى إفلاس الأنظمة والسلطات القائمة على المحاصصة والمذهبية والطائفية، ولا بدّ للقوى المدنية والديمقراطية واليسارية والعلمانية من إعادة الاعتبار إلى الخطاب المدني الديمقراطي للدولة وأدواته، فهو وحده القادر على التصدّي بنجاح لتحديات العصر ومتطلباته، وعلى توحيد الشعوب والمجتمعات وصيانة وحماية نسيجها وفسيفسائها بكلّ تلاوينها ومعتقداتها وتعدّديتها الخادمة لنمو ونهوض وتطور المجتمعات.
Quds.45 gmail.com