التفاهم النووي والأسد وربع الساعة الأخير
ـ كلّ شيء في المنطقة يقول إن مرحلة جديدة بدأت ما بعد التفاهم حول الملف النووي الإيراني. فلا يعقل أن يكون التفاهم عبر التفاوض نهاية الملف الذي يبرّر للغرب حرباً على إيران، ويستنهض الرأي العام، ويمكن التذرّع بغطاء قرارات مجلس الأمن الصادرة وفقاً للفصل السابع بصدده، لخوض حرب من دون العودة إلى المجلس كما حدث في سوابق أميركية. وأن يكون في حساب الغرب وعلى رأسه واشنطن، أنّ بالإمكان أو أن أحداً أو عدداً من الحلفاء يستطيع أن يذهب من بعده إلى حروب تغيّر الجغرافيا السياسية لحلفاء إيران وترتّب تغييراً جيواستراتيجيا في التوازانات، ما يمنح الغرب وضعاً تفاوضياً أفضل، ويستحيل بالتالي ـ إذا وجد هذا الخيار ـ أن يجري التوقيع قبل حصوله أو اختبار حصوله.
ـ هذا المسار الذي ترسمه المعادلات الاستراتيجية لا يحتاج إلى التوقف أمام التصريحات التي تصدر عن الفرقاء لفحصه أو التثبت من صحته. فهو من ضمن ألف باء المفاهيم والمعايير الاستراتيجية للصراعات والحروب والمفاوضات. لا بل الأصح أن هذه التصريحات تحتاج إلى أن تُقرأ على خلفية هذا الاستنتاج، مثلها مثل المواجهات الدائرة في المنطقة بعد التوقيع على هذا التفاهم. خصوصاً أن كل شيء يقول أيضاً أن لا بديل لهذا التفاهم إلا التفاهم. وكذلك لا بديل لتطبيق التفاهم إلا تطبيق التفاهم. فكل رهانات على تعقيدات تعترض مسار التطبيق طارئة وستجد حلّاً، كمثل التعقيدات التي اعترضت قبل ذلك المفاوضات والتوصل إلى التفاهم والتي وجدت حلّاً وتمّ بعدها التوقيع وولد التفاهم.
ـ كان الرهان الأميركي في المفاوضات على نفاذ وقود طهران وحلفائها، أي قدرتهم على الصمود. وكان رهان طهران وحلفائها على نفاذ وقت واشنطن وحلفائها. فالأميركي كان يعرف أن الزمن يعمل ضدّه مرتين، مرة بدنوّ أجل مغادرته البرّ الآسيوي من العراق ثم من أفغانستان، مع نهاية عام 2014، وأن العام 2015 رغماً عنه هو عام السياسة والتفاهمات وفقاً لما تسفر عنه التوازنات. وفي المقابل كان التقدم المضطرد في الإنجازات الإيرانية في التقنية النووية، من امتلاك تقنية التخصيب على نسب منخفضة إلى بلوغ القدرة على التخصيب بنسب عالية، يمهّد للقدرة النووية العسكرية وانتهاءً بتسريع القدرة على التخصيب والزمن اللازم لامتلاك ما يكفي من الوقود المخصّب لصناعة قنبلة، وأخيراً القدرة على تصنيع صواريخ بالستية بقدرات تتيح بلوغ عواصم الغرب وجهوزيتها لتحميل رؤوس نووية، ما يجعل كل تفاوض يجري في جولة لاحقة أشد تعقيداً من التفاوض الذي جرى في الجولة السابقة. ويضع الأميركي أمام لعبة نفاذ الوقت مجدداً. ولذلك كان الرهان الغربي عموماً والأميركي خصوصاً على نفاذ قدرة الصمود عند إيران وحلفائها، في مواجهة تحديات اقتصادية ينتجها الحصار وتزيدها العقوبات سوءاً، وتحدّيات سياسية وعسكرية من سورية إلى لبنان إلى اليمن، أملاً بأن ترتضي إيران المقايضة بين العقوبات والحصار من جهة وتقديم الضمانات اللازمة لعدم امتلاك قدرة نووية عسكرية من جهة مقابلة. ليصرف نفاذ الوقود في الملفات الإقليمية التي ترسم الجغرافيا السياسية للمنطقة ما بعد التفاهم.
ـ مر العام 2014 وبدء عام السياسة وصار التفاهم حكمياً. وبالتزامن، صارت إيران بقدرة عالية تكتمل معها حلقات السلسلة النووية التي سعى الغرب إلى حجبها عنها بواسطة الحصار والعقوبات. وصار الفشل في المفاوضات يعني امتلاك إيران القنبلة بقرار عنوانه إما ردع الحرب أو إلزام الغرب بالعودة إلى التفاوض، كما قالت الدوائر الإيرانية للأميركيين، إنّ فتوى تحريم امتلاك السلاح النووي ستستبدل بفتوى تحريم استخدامه وإلزامية امتلاكه لحماية قرار الاستقلال للجمهورية الإسلامية مع عالم ظالم لا يفهم إلا لغة القوة. ونفاذ الوقت هنا يجعل التفاهم وتطبيق التفاهم ضرورة، كما بالنسبة إلى إيران بلغة التفاهم والنزاهة بتطبيقه ينطلقان من الحاجة للمزيد من الوقود أي ضروروات الصمود، التي استدعت قبول التفاهم وستستدعي تطبيقاً نزيهاً للالتزامات. فإيران تنال مالاً تحتاجه وشرعية تسعى إلى الانخراط فيها وأسواقاً ستفتح أمامها واستثمارات ستفد إليها، ومع كل ذلك شرعية امتلاكها كامل التقنية النووية التي تجعل السلاح النووي مجرد حاجة لقرار، وبالتالي صار التفاهم والتطبيق على الطريق، وهكذا صارت العودة إلى الخلف للطرفين استحالة، والحروب الإقليمية بعد التفاهم استحالة، وتغيير إيران مواقفها الإقليمية تستحالة، فالذي لم يتم قبل التفاهم لن يتم بعده، والتوقيع من الغرب توقيع ضمنيّ على اليقين بأن لا تغيير جذرياً في التوازنات يراهن عليه يمكن أن يحدث، وبالتالي التوقيع على التفاهم النووي توقيع ضمني على سلوك مبدأ التفاهمات في الملفات الإقليمية، وأن لا تغيير في مواقف إيران وبالتالي فالذهاب إلى التسويات الإقليمية يعني تسويات بمواقف تلتقي مع ثوابت إيران التي لم تتغيّر.
ـ الحديث عن الملفات الإقليمية يفتح الباب على قضيتين، الأولى تتمثل بحلفاء واشنطن الذين تعنيهم الملفات الإقليمية المختلف عليها بين الغرب وإيران وهم السعودية وتركيا و«إسرائيل»، والثانية ما تختزنه سورية من تلاق لحلفاء واشنطن الثلاثة عدا عن ملفات خاصة بكل منهم، فصار المحور المقرر للملفات الإقليمية هو مستقبل سورية، واستطراداً مستقبل تركيا في سورية ومستقبل السعودية في سورية ومستقبل «إسرائيل» في سورية، وصار التعاون الأميركي ـ الروسي ـ الإيراني له عنوان واحد، تسهيل النزول عن شجرة التصعيد للحلفاء الثلاثة، وتقديم التسهيلات التي تساعدهم في هذا النزول والتأقلم مع الوضع الجديد. ولهذا، شهدنا ونشهد التحرك الروسي على ملاقاة السعودية وسورية ضمن تنسيق وحوار أمني سياسي لم يعمر طويلاً، وشهدنا قبله وبعده دعوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى قيام حلف يضمّ تركيا والسعودية وسورية في حلف ضد الإرهاب. ونشهد تداولاً بمبادرة سياسية إيرانية تقوم على عناوين تسهّل انخراط السعودية وتركيا فيها. ونشهد بالمقابل تصعيداً وتناوباً في التصعيد الميداني من الجماعات المسلحة المدعومة من السعودية وتركيا و«إسرائيل» وتجاذبات تتصل برعاية هذه الجماعات من أطراف هذا المثلث.
ـ يقول الرئيس السوري بشار الأسد إن المنطقة لم تدخل بعد ربع الساعة الأخير، لكن التصعيد الذي نشهده ربما يكون مؤشّراً إلى أننا نقترب منه. والواضح ان ما نشهده، ليس سوى الجولة الأخيرة لتجميع الأوراق لاختبار القدرة على تناسب الشعارات مع التوازنات، حتى تستقيم في مرحلة الشد النهائي الشعارات مع السعي إلى تعديل التوازنات. فتُرفَع السقوف للأعلى، على طريقة ما فعله السعوديون والأتراك و«الإسرائيليون» في السياسة والميدان، ليبدأ لاحقاً مع رسوّ التوازنات على نهاياتها تعديل الشعارات بما يتناسب مع حاصلها في الميدان، وهكذا عادت الأمور مرة أخرى، لكن لقضية تكتية ولزمن محدود لتجاذب بين الرهان على نفاذ الوقت ونفاذ الوقود.
ناصر قنديل
تنشر هذه الزاوية بالتعاون بين صحيفة «البناء» اللبنانية وصحيفة «الشروق» التونسية صباح كل جمعة، ما استحق التحية والشكر للزملاء والأصدقاء في «الشروق».