غنّت فيروز… فبكت الرّبى
في ذلك المقهى الذي احتلّ إحدى زوايا الشارع الرئيس في دمشق القديمة، اعتادت تلك الفتاة المفعمة بالحيوية والنشاط أن تحتسي قهوتها الصباحية أيام العطل على أنغام فيروز، برفقة من أحبّت واختاره قلبها.
كنت أراها وأرى بريق الأمل في عينيها. إلا ذاك الصباح، كانت وحيدة من دون حبيبها. في عينيها حزن ودموع أغرقت ذلك البريق الذي اعتدت رؤيته. ثمّ غنّت فيروز: «احكيلي احكيلي عن بلدي احكيلي». شعرت حينئذ أنه عليّ أن أقف إلى جانبها، فأنا أعرفها ولا أعرفها.
اقتربت منها وسألتها: «ما بك؟ لِمَ كلّ هذا الضيق؟». فأومأت إليّ بعينيها وكأنها كانت تنتظر منّي أن آتي وأسألها عن حالها. ساد صمت، كُسر بصوتها لتقول لي: «أنا اسمي ربى، والربى تعني الأرض الخضراء، لكن أين لي أن أكون تلك الأرض، وقد بتّ رماداً بعدما اجتاحت الحرب بلدي»!
تصمت، وتسرح عيناها بعيداً، وتعود بعد دقائق لتقول: «فيروز تطلب منّي أن أحكي لها عن بلدي، سأختصر حكاية وطني ببضع كلمات عن نفسي، فأنا فتاة كان لي أهل ومنزل صغير، لكنه ذهب في أتون الحرب. كنت أعيش مع أسرتي التي شُرّدت، فمنهم من رحل وغادر البلاد، ومنهم من استشهد، ومنهم كحالي هُجّر وهو لا يزال يتنفس على أرض الوطن».
نظرت إليّ وبالكاد رأيت عينيها، لتقول لي بصوتها المخنوق: «أنا مهجّرة في وطني. فالغربة القاتلة أن تحياها في قلب وطنك». ثم تطلق تنهيدة وتغمض عينيها لتتذكر أصدقاءها الذين هم أيضاً رحلوا وتركوا كلّ شيء.
وفي لحظة صمت، تتساقط حبيبات اللؤلؤ من عينيها متدحرجة فوق خدّيها معلنةً حرقة قلبها، حاولتُ التخفيف عنها. لكنني لم أجد كلمات أستطيع بها إخماد حريق اجتاح قلبها.
عاد الصمت ليعتلي المكان تاركاً فسحة صغيرة لصوت فيروز التي كانت تقول: «احكيلي احكيلي عن بلدي احكيلي»، لا يكسره إلا تنهيدة طويلة تطلقها الفتاة وتسافر بعينيها إلى ماضٍ رسم على وجهها الأنثوي ابتسامة مزّقت حزنها، لتعود كما عرفتها مفعمة بالحياة، لكنها مقنّعة تخفي وراءها ألماً وحزناً. فربى لم تكن هي الوحيدة التي خسرت ما خسرته في هذه الحرب.
ربى شلهوب