كافكا ينام قلقاً وخائفاً على جنبه الأيمن فيتملّكه الإحساس المرعب بـ «المسخ»

كتب قيس المولى: الحيز الذي اشتغل عليه كافكا هو حيز ضيق ضمن الأمداء المتاحة من الموجودات لمثل هذه الكتابة، أي تلك المنظورة. لكن الاشتغال الأهم حصل ضمن مفاهيم الخوف والقلق اللذين فتحا أمام كافكا ذاك الإحساس بالمسخ، أي ذلك التحول البيولوجي الذي يستدعي بين ما يستدعيه مواجهة الأسرة ومواجهة رب العمل، وما يبنى عليهما من متغيرات ضمن الحياة الشخصية للشخص الممسوخ، وتلك العلاقة التي أراد كافكا إيصالها وتتعلق بأثر الأحلام وتحديداً الأحلام المزعجة وأثرها في حياة الأفراد، الأمر الذي يعني أن الكابوس قد يتحول الى حقيقة تحوّل الإنسان شكلاً متحوّلاً بخلاف شكله الإنساني.

«غريغور ساما» الرحّال التجاري، بطل كافكا في رواية «المسخ»، استيقظ من نومه صباحاً بعد سلسلة من الأحلام المزعجة ووجد نفسه قد تحوّل الى حشرة ضخمة ذات بطن منتفخة وأرجل متعددة . هذا التحول على ما يتبيّن لنا لم يلغ حواسه الأخرى، وإن اختلفت هذه الحواس بدرجة ما في قدراتها على التركيز أو الاستيعاب، لكنها لم تفقد تركيزها حول المهم والضروري ضمن شريط البناء التذكري الذي مرّ عبر حياته، ورغم أنه حشرة ضخمة فإنه يتذكر أنه لا بد من أن يلحق بقطار الساعة السابعة إلا ربعاً، ولا بد من أن يصل الى مكتبه ويقوم بواجباته الوظيفية ويعي تماماً وهو ممسوخ أنه إن لم يقم بذلك فسوف يفقد وظيفته، ويعي أيضاً أن فقدانه وظيفته يعني إرهاق الأسرة وعدم القدرة على إعالة أسرة تتكون من الوالدين وابنتين. تلك الأمور كلّه يدركها وهو لا يزال في سريره محاولا بمختلف الوسائل تحريك جسده والوصول إلى مقبض الباب. ولا شك في أن الفعل الدرامي بدأ يأخذ متسعاً جديداً مع محاولات «غريغور ساما» النهوض من السرير بلا يدين وعلى قوادم متشعبة وجسد منتفخ، بل أن نشاطه الحركي يبدأ في الاتقاد قليلاً.

عندما يسمع «غريغور» الساعة تدق السابعة مع صيحات أمه وأبيه وشقيقتيه يدعوانه للنهوض من الفراش واللحاق بالقطار الآخر، يتحرّك المشهد الدرامي بفعل تقابلي بين الطرفين، العائلة التي لا تعلم بما جرى له و»غريغور» الذي يريد أن ينهض من فراشه، وهنا يتقدم كافكا بقدراته الفنية في حبك هذا الفعل التقابلي الدرامي، مصوراً تلك اللحظات الحرجة بين الطرفين من خلال مشاهد صورية مؤلمة، فبعد أن يرفع «غريغور» بالكاد جزءاً من جسده ينظر عبر النافذة ويرى الضباب البارد الكثيف محاولاً أن يفكر في كيفية توضيح التباس تحوله وهو يخاطب الضباب الكثيف: «يا أبت… يجب التخلص من فكرة هذا غريغور». وهو تتابع إقناعي للذات وللطرف الآخر للوصول إلى الحدث الأشد مأسوية أو بالأحرى ترتيب انسلاخه التامّ عن الحياة.

هنا لا بد لمساحة الرائي من أن تتسع وتتوسع بواطن الحدث ويكون الفعل الإنساني مكتملاً في حضوره ضمن الحدث الروائي، لتعجيل الانتقال بالوقائع التي أرادها كافكا أن تسارع إلى نهايتها بعد اختفاء الظلام، وأنارت الخادمة ضوء الغرفة فوق جثة «غريغور ساما».

نكرر اعتقادنا بأن محدودية الموجودات ومحدودية الواقع المكاني تشكلان تقويضاً لسرد الوقائع من وجهة النظر للتركيب البنائي، لكن قدرة كافكا على تحريك العوامل النفسية على نحو مركز أضاف إلى البناء القصصي مفاهيم تداخلية بين القوى المتصارعة الظاهرية السطحية منها والباطنية العميقة، وذلك كله جعلنا نتمتع بمسخ كافكا لـ»غريغوري ساما» ونتمتع بألم موته.

في المقابل، أنضج كافكا البديل الضدي لهذا المسخ المعبر عن استمرارية الحياة والمتمثل في «غريت» الإبنة، الثمرة الناضجة التي يبحث والداها لها عن زوج صالح…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى