حنظلة… الواقف الراكض عند حواف الأبيض والأسود!
نصّار إبراهيم
القبر الذي يحمل الرقم «230190» في «مقبرة بروك وود الإسلامية» في لندن، هو القبر الوحيد الذي لا يحمل شاهداً. فقط يرتفع عليه علم فلسطين، ذلك هو المكان الذي يغفو فيه ناجي سليم حسين العلي… فتذكروا ذلك!
حنظلة… الطفل العنيد، الواضح، الحاسم، الغاضب، الحالم، المقاتل، الواقف الراكض عند حواف الأبيض والأسود… عند حدود فلسطين التي لا تعرف الالتباس ولا تعترف به. فحين يضيع الوطن لا حلول وسطى هناك. والمقاومة من أجل الوطن لا تعترف بالمساحات الرمادية. نصف مقاومة يعني!؟ فإما أن تكون واضحاً أو لا تكون. وحين يضيع الوطن لا تعود أنت أنت. تفقد الحياة عاديتها. لهذا لم يغادر حنظلة طفولته بعد. إنه هناك مقيم في فلسطين التي يعرفها!
في الثاني والعشرين من تموز 1987 كان حنظلة يسير وظهره للعالم. كان يمضي وحيداً في أحد شوارع لندن وهو يعقد ـ كعادته ـ يديه وراء ظهره. كان يحلم. يحلم بفلسطين. كان حزينا حدّ الدموع. بعيداً كالسماء وقريباً بحيث يسمع همس أشجار قرية «الشجرة» هناك على سفوح الجليل. في تلك المسافة الواصلة بين طبريا والناصرة والسماء.
في لحظة ماكرة تقدم قاتل جبان. ومن كاتم صوت أكثر جبناً أطلق الرصاص على الطفل الفلسطينيّ. سقط حنظلة. حاول أن ينظر في عينيّ القاتل مباشرة. لكن القاتل مضى وكأنه لا يملك الجرأة على النظر في عينيّ طفل يرفض أن يسقط من دون أن ينظر في عينيّ القاتل الجبان مباشرة.
ثمانية وثلاثون يوماً قاوم خلالها قلب حنظلة ووعيه. كان حزيناً كبحر بعيد. كشجرة تنتظر طفلها ليعود إليها، لـ«يتعربشها» ويعلو. ويعلو ليراقص أغصانها الذاهبة نحو السماء مع ريح الغروب. كان يتأرجح وعيناه لا تفارق قرص الشمس وهو يغوص في عتمة المساء. كان حزيناً كطفولة تركض في مدى الذاكرة.
حنظلة هو الوعي النقيّ الصاعد من مخيمات المنافي والأحلام بالعودة إلى وطن يضيء كمنارة. لا يعرف أن يداري أو يراوغ أو يناور. يدير ظهره للعجز والجبن والتخاذل والنفاق والخيانة والعالم. يواصل الحلم ويقاتل. لا يسأل هل سيقاتل سنةً، عشر سنوات، مئة سنة، ألف سنة؟ لا بأس، ففلسطين تستحق ذلك وأكثر. ذلك لأنها ببساطة فلسطين التي لا فلسطين غيرها.
كم سيكون مخالفاً للطبيعة والمنطق والذاكرة والأحلام لو أن حنظلة لم يكن ما هو عليه. فهو ابن فاطمة الفلسطينية التي لا تعرف المساومة ولا تهادن. صابرة قاهرة، عنيدة ومقاوِمة. وحين تضيق فسحة الأمل في وجه رفيق حياتها الكادح الفقير الشريف النقيّ فيرتبك قليلاً، تنهض فاطمة بكلّ جبروت الكنعانية المحاربة «عناة»، فتمدّه بالعزيمة والصبر والعناد وتدفع به من جديد نحو خط المقاومة والوضوح.
يحلم حنظلة بقمرٍ يغنّي في سماء الجليل. قمر يرحل كلّ مساء ما بين طبريا والناصرة. يتمهّل قليلاً فوق بلدة «الشجرة». هناك، حيث أعلن حنظلة صرخة وجوده الأولى ذات صباح في عام 1937، هناك في ظلال «الشجرة» الجليلية تلك، حيث ركض وغنّى وراقص الفراشات أحد عشر حولاً. هناك، حيث تفاصيل الطفولة الأولى. 11 سنة هي عمر حنظلة. بعدئذٍ توقف الزمان وتجمد العمر. كان ذلك في عام 1948. عام نكبة العرب. مذّاك وحنظلة يركض في المطلق. في السماء والبحر وعند الحدود وفي أبعاد الذاكرة. بقي يدور عند حدود فلسطين كحصان برّي لا ينسى مكان ولادته الأول. لا يغادر ولا ينسى. مذّاك أدار ظهره للعالم. فالعالم الذي يتواطأ على طفل في العاشرة لا يستحق الاحترام. فقط هي فلسطين من تحدّد خطّ السير والحبّ والأمل ومعنى الحياة.
كأنشودة الأناشيد هي فلسطين. وحنظلة هو حارس روحها المقدسة. وويلٌ لمن يعبث بالمقدّس الذي يسكن قلب طفل يرفض أن يكبر ويصرّ أن يبقى في العاشرة. يرفض أن يجامل أو يهادن أو يساوم. ترك كلّ شيء وبقي هناك في المخيم. حيث الوعي والذاكرة والفقر العالي. هناك، حيث تنتظر البراكين وحيث خيمة اللجوء تتمايز عن خيمة المقاومة. كان حنظلة يسمع غضب الروح الفلسطينية العربية بحدسه. فراح يهيّئ لها الوعي.
حنظلة أيها الفلسطينيّ الشقيّ البهيّ، أنت الوجه الآخر والوعي النقيض للخداع والذلّ. نقيض الكروش السمينة والأقفية العريضة. نقيض لصوص الأوطان ولقمة الفقراء. نقيض التذلّل والأقلام الرخيصة.
حنظلة أيها الفلسطينيّ البسيط كقطرة. برشاقتك ووضوحك وجرأتك تجاوزت بؤس الأديان والطوائف والأحزاب وموائد السلاطين والملوك وبراميل النفط.
كان حنظلة الفلسطينيّ الشقيّ العنيد الباسل راية أمة. شعلة الوعي الذي لا يتردّد في المجابهة. دافع بأقلّ الكلمات وأكثرها وضوحاً عن جمرة المقاومة والوعي. قاتل ببسالة طفل فلسطينيّ يأبى أن ينسى ويأبى أن يصمت. طفل أدار ظهره لكلّ نذالات العالم وسفالاته. فيما تحضن عيناه فلسطين. ثقبوا ظهره بالرصاص. غرسوا فيه سكاكين الغدر والخيانة. لكنه لم يتراجع. كان يتألّم، يسقط، ينزف، يصرخ. لكنه كان ينهض من رماد الموت كعنقاء أزلية، فلم يغادر خطّ الواجب والمقاومة يوماً.
حنظلة أيقونة فلسطين وقامتها الجميلة. قوة الكشف عن العجز والتواطؤ. هو خطّ النار الفاصل بين الوضوح والخيارات البائسة والصمت الجبان.
كم تحمّلت يا حنظلة من أجل فلسطين، لكنك كنت تقول: إنها تستحق كلّ هذا وأكثر. فماذا سأكون من دون فلسطين. مجرّد طفل لاجئ يجلّله العار. أنا ابن عارهم. لقد تركوني وحيداً، كانوا يعتقدون أنني سأنسى. وفي النهاية سأستسلم وأصمت. كم كانوا حمقى ولا زالوا!
أنا طفل فلسطينيّ ولِد هناك عند جذور «الشجرة». انتزعوا منه طفولته فنسيت كيف أكون طفلاً. فكيف سأكون طفلاً وأنا ابن النكبات والخيبات المتواصلة وأيضاً ابن المقاومات التي لا نهاية لها!؟
ليس أمامي سوى خيار واحد أن أعود إلى «الشجرة». إني أشتاق إلى «شجرتي»، إلى رائحتها، ظلالها، شمسها، ليلها، قمرها، مطرها ونداها. ولن أستبدلها بكلّ أشجار الدنيا. ذلك هو قدري. هي قدري. «الشجرة» قدري، فلسطين قدري… فماذا أفعل؟ لم أختر ذلك… أنا هكذا.
حنظلة هو الخطّ الفاصل بين العتمة والضوء. فقاتل كما لم تقاتل جيوش بكاملها. لم يتعب ولم يتردّد ولم ييأس، إنما كان يزرع حقولاً من الأحلام والآمال التي كانت تزهر في ليل العرب. فأحبّه شرفاؤهم وفقراؤهم. لقد أصبح خافيتهم البهية.
هو حنظلة الفلسطينيّ شرف القلم المقاوم. فأرعبهم ذلك. لقد حاولوا جهدهم أن يسكتوه، حاولوا أن يشتروه، أن يخيفوه، حاولوا طيلة مساحة عمره، لكنه لم يحِد بوجهه عن فلسطين. حينذاك، لم يعد أمامهم سوى حلّ واحد… أن يطلقوا عليه الرصاص مباشرة من كاتم صوت جبان. قاوم الموت الجبان ثمانية وثلاثين يوماً وليلة، لكنه في النهاية رحل… كان ذلك في 29 آب 1987.
رحلتَ حزيناً يا حنظلة، لأنك لم تعد إلى «الشجرة» التي تنتظر على سفوح الجليل ما بين طبرية والناصرة. قرية معلّقة في أطراف السماء كحلم بعيد. ومع ذلك، رحلتَ وأنت تبتسم من غباء القاتل المأجور وسيّده، لأنهما اعتقدا أنهما قد نجحا في إسكاتك أخيراً. لقد تخيّلوا ذلك، فاتسعت بسمتكَ، وأضاء وجهك وقلبك، لا بل رحت تضحك عالياً من بلاهتهم وحماقتهم وضيق أفقهم.
فكيف يمكن أن يغتالوا الفكرة؟ لقد تركت لهم جيشاً من أربعين ألف حنظلة حصيلة عمرك. وجميعهم لا زالوا يديرون ظهورهم للعالم ويواصلون العناد والمقاومة وعيونهم لا تفارق فلسطين.
تطير العصافير كلّ صباح، تحلّق في سماء الجليل، تجوب الشواطئ. وفي المساء تعود إلى «الشجرة»… منذ عام النكبة الأول والعصافير ترحل وتعود، وكلّ مساء تسألها «الشجرة» السؤال ذاته: «متى سيعود إليّ طفلي حنظلة؟»؟
تصمت العصافير قليلاً ثمّ تهمس: سيعود. سيعود إلينا ذات يوم كما المطر. سنقاوم وننتظر.