صرخة الغضب اللبنانية
د. سلوى خليل الأمين
أخيراً انتفض الشعب اللبناني وكانت صرخة الغضب عالية النبرة، حرة وعفوية، فجرها القهر المزمن والظلم المستمرّ، عبّرت عن معاناة شعب مقهور منذ زمن سيطرة أصحاب رأس المال على السلطة، وجعل المال الأداة المحركة لكلّ إذعان وشراء ضمائر، لهذا ازداد الفقير فقراً والموظف قهراً والعامل اضطهاداً، مما سفح كرامة الشعب على عتبات من تولوا السلطة الذين كان همّهم زيادة ثرواتهم، بغضّ النظر عن سلب المواطن اللبناني حقوقه المتوجبة المفروضة على نواب ووزراء ورؤساء منحهم وكالة من أجل تدبير شؤونه الوطنية والمعيشية التي لم يؤدوها بأمانة المؤتمن، إذ سرعان ما خانوا الوطن وحاصروا الشعب بانتهاك حقوقه المادية والمعنوية، عبر العمل على إلغاء الطبقة الوسطى بتمرير خطة اقتصادية ممنهجة تجعل الوطن حكراً لفئة ضئيلة تمسك المفاصل السياسية والاقتصادية وتجعل الشعب فقيراً عن سابق إصرار وترصّد، وكانت خططهم شنّ هذه الحرب الاقتصادية من أجل خفض صوت الشعب وجعل همّه الأكبر تأمين لقمة العيش والمستلزمات الحياتية اليومية، لهذا كانت الخطة المذلة التي حطمت العنفوان الوطني للمواطن، زارعة الخوف في نفسه من المستقبل رعباً قائماً، بسبب قلة الزاد والهرولة الدائمة لتأمين مستقبل الأبناء.
هادنهم الشعب سنوات طوال، إما خوفاً وإما استزلاماً وإما صمتاً، إلى أن طفح الكيل أخيراً، بسبب أزمة النفايات التي فضحت الخصخصة والمحاصصة والانتفاعات الشخصية من المسؤولين، فهبّ الشعب اللبناني للدفاع عن الحقوق المنهوبة… بالقول: «طلعت ريحتكم» و«بدنا نحاسب».
هؤلاء النواب، وهنا علينا أن لا نضع الجميع في كفة ميزان واحدة، مدّدوا وتمدّدوا في الوقت الذي منهم نواب خانوا الوطن، حين لم يساهموا في توحيد البندقية لمحاربة العدو الصهيوني، وحين رفعوا أصواتهم ضدّ الجارة الشقيقة سورية، مطالبين قيادتها بالقيام بالإصلاحات المفقودة في بلدهم وبين ظهرانيهم، مؤازرين العصابات الإرهابية و«إسرائيل» وكلّ الدول التي حبكت المؤامرة ضدّها، بغضّ النظر عن المصلحة اللبنانية العليا، التي تتأثر سلباً إذا ما تعرّضت سورية للخطر، وهذا ما حصل.
لقد تناسوا أنّ لبنان ومواطنيه يرزحون تحت أعباء مديونية أغرقت كلّ مواطن بالديون المستدامة، التي سطرها جهابذة السياسة حين جعلوا الخطط المالية مساراً محكماً لإفقار الناس وملء جيوبهم، دون رفة جفن أو خجل من المستقبل والتاريخ الذي يسجل مآثرهم وأطماعهم وشهواتهم إلى السلطة والمال بأحرف سوداء، دون إدراك وربما عن جهل أو قصور رؤية، تنبئهم أنّ الشعب لا بدّ أن ينتفض ويثور، ويغرقهم في شرّ أعمالهم الشيطانية. من هنا كان تجميع النفايات في الشوارع وروائحها الكريهة والخوف من الأمراض القشة التي قصمت ظهر البعير، بحيث تحوّلت صرخة الغضب إلى انتفاضة واسعة في الداخل والخارج أزاحت الخوف والصمت من أذهان الشعب اللبناني، فنزل بقوة إلى الساحات معترضاً ومتأففاً ومغتاظاً وصارخاً في وجوههم: بدنا نحاسب… طلعت ريحتكم… بدنا دولة مدنية… بدنا قانون انتخاب على أساس النسبية… ما بدنا طائفية كلنا لبنانيون… أما ما عدا ذلك فهو هرطقات شبابية لا تستند إلى فكر تطلعي لمستقبل لبنان.
هذه الصرخات الغاضبة وغيرها، عبّر عنها اللبنانيون بمضمون طفح الكيل، في تظاهرة مساء السبت في 29 آب الحالي، بمختلف طوائفهم ومشاربهم الحزبية والسياسية والمناطق التي ينتمون إليها بالولادة، بحيث يجب أن لا تمرّ مرور الكرام، وأن لا يتمّ اعتبارها فشة خلق، وغداً تندثر وينتهي كلّ شيء، ويعود كلّ شيء كما كان، من محاصصة ومخاصصة واتفاقيات على السلب والنهب والفساد والإفساد!
المطلوب أن تكون الصورة واضحة لدى كلّ السياسيين الفاسدين منهم، والمقاومين المناضلين، والمطالبين بالإصلاح والتغيير، أنه قد آن الأوان لسماع صرخة الناس وغضبهم، والتفكير ملياً في الحراك الشعبي الذي سيتزايد يوماً بعد يوم، والذي قد لا يبقي ولا يذرّ، فالموضوع عامّ وشامل، وليس لفئة لبنانية دون الأخرى حيث حذار حذار من ثورة الجياع، لأنّ الجوع كافر، وكما قال الإمام علي بن أبي طالب: «لو كان الفقر رجلا لقتلته»، وقال: «أعجب لجائع كيف لا يخرج إلى الناس شاهراً سيفه»، وها قد خرج الشعب اللبناني شاهراً سيوف الحق والمطالب الاجتماعية التي هي حق من حقوقه الدستورية، والتي تؤمّن له العيش اللائق في وطنه، وكلّ مستلزمات الحياة الضرورية من ماء وكهرباء وتعليم مجاني وطبابة ووظائف مبنية على الكفاءات وليس على الواسطات ولوائح المحظوظين من المقرّبين للزعماء ومذهبيتهم البغيضة، التي أنكرها الحراك الشعبي ونبذها، عبر التنبّه الحاصل لأهمية المواطنة اللبنانية الحقيقية والسليمة.
إنّ هذا الشعب الذي نزل بكثافة إلى الساحات معترضاً على الزعماء والسياسيين ممّن أفلسوا الخزينة ونهبوا المال العام ومنهم 11 مليار ما زالت ضائعة من دون إظهار قطع الحساب لها، ولم يكفهم هذا، فباتوا يهدّدون الموظفين بقطع رواتبهم التي لا تسمن ولا تغني من جوع، بعد أن أجهضوا سلسلة الرتب والرواتب المحقة والتي ذهب جزءاً كبيراً من مفاعيلها إلى جيوبهم وخزائن بيوت مالهم، غير آبهين بالمطالبة الشعبية التي ستقول لهم يوماً: من أين لك هذا؟
إنّ الظن بأنّ تدجين الناس وإرهاقهم بحرب اقتصادية مدمّرة عبر الخطط العشوائية المحكمة التفاصيل التي مارسوها بدقة، لن تجعل المواطن خاضعاً ومرتهناً للقمة العيش الصعبة، وغاضاً النظر عن تصرفات المسؤول السياسي الذي يعيث في الوطن فساداً، إضافة إلى ممارسة سياسة الفتنة الطائفية التي جعلوها مطية كي يتسنى لهم شدّ العصب المذهبي الذي يحرك عواطف الناس، خصوصاً أنّ النظام اللبناني قائم على أساس طائفي و6 و6 مكرّر بات مرفوضاً من الجميع، لأنّ الكثير من الجيل اللبناني الحالي، الواقف على مسارات القرية الكونية الكبيرة بات مؤمناً بالعلمانية وبالدولة المدنية، وبحقه في العمل والعيش الكريم في وطنه وبين أهله.
فمنذ الحرب الأهلية التي حدثت في العام 1975 ولتاريخه، الوطن إلى سقوط وانهيار مستمرّ، والمواطن على أجنحة العاصفة، خصوصاً بعد تكريس الطائفية والمذهبية في كلّ البلد لا سيما في الوظائف الأولى وفي الرئاسات الثلاث، بعد أن كانت اتفاقاً مبدئياً أدرج منذ الاستقلال وبقي سائداً في العرف، حتى أتى اتفاق الطائف وكرّس ذلك في بنوده، بعد أن حذف العديد من صلاحيات رئيس الجمهورية ومنحها لمجلس الوزراء مجتمعاً، وهذا أيضاً باب من أبواب الفتنة التي دبّرت في غمضة عيون، وكان ما كان من إغراق لبنان في الدين العام، وتفريغ المؤسسات من الإداريين الملتزمين القانون واليمين الدستوري، وهدم الإدارة الرسمية وتفكيكها، علماً أنّ الوطن لا يمكن أن تقوم له قيامة حقيقية، إلا بوجود إدارة رسمية سليمة يقودها موظفون أكفاء، قادرون على وضع انتماءاتهم السياسية والطائفية جانباً، والتصرف بموجب المراسيم والقوانين المرعية الإجراء، التي هي العنوان الأساس لإنماء الوطن وتقدّمه وتطوّره.
لقد أفسدوا الوطن والمواطن على حدّ سواء، وقلبوا الوطن إلى عشائر وقبائل وطوائف ممذهبة وأحزاب سياسية محلية متعدّدة مسقطين نضالات الأحزاب العلمانية والقومية من أجنداتهم، فاخترقوا القضاء بداية عبر تعطيله وإدخاله في فلك مصالحهم الخاصة، فأصبح القاضي مهما علت رتبته، مجبراً كي ينال حظوة الترفيع ونيل المراكز العليا أن يقف على باب الزعيم طائعاً، وهكذا عند اختيار ضباط الحربية والأمن العام والدرك وأمن الدولة، بحيث أصبح الدخول عبر لوائح زعماء الطوائف، علماً أنه في ما مضى كان اختيار الضابط يخضع لأمور سلوكية ووطنية ومعنوية كثيرة تلحقه حتى في اختيار شريكة العمر، وكذلك السفير الذي يمثل لبنان في الخارج، لهذا حلق لبنان في الداخل والخارج فأنتج قادة جيش مشهود لهم، كما أنتج سفراء شرّفوا وجه لبنان الحضاري ورفعوه بين الأمم كافة في المحافل الدولية وموظفون أعلوا مراتب الإدارة العامة، أما اليوم فحدّث ولا حرج من التجاوزات واختراق القوانين، حيث كلّ من يمتّ إلى الزعيم بصلة يكون المحظي بالمراكز والرتب، المهم أن ينتمي مذهبياً للزعيم. هكذا هزلت الإدارة الرسمية وباتت اليوم في حالة النزاع الأخير، والمعروف أنه متى سقطت الإدارة الرسمية التي تمثل نظام الدولة العادل… سقط الوطن.
هكذا أصبحنا: دون قضاء نزيه، ودون أمن منضبط سوى بأوامر خارجية، وإدارة رسمية مهلهلة، ومؤسسة الجيش خاضعة للقرارات السياسية الممذهبة، ودون اتفاق على العداء لـ«إسرائيل» ومقاومتها، والتصدّي لـ«داعش» والعصابات الإرهابية وخلاياها النائمة، بل هناك نواب يغذون مساراتهم تحت شعار المذهبية، التي بدأت تسري في الوطن كالنار في الهشيم، حيث كلّ يغني على مذهبه شاحذاً نفوس جماعته، وهنا المهزلة الكبرى، حين يتخلى رجل السياسة عن وطنيته، ملتحقاً بمذهبه وطائفته، تاركاً الوطن في مهبّ الريح.
هذا الخطأ الفادح وقع فيه بعض رجالات السياسة في لبنان، فهادنوا أشرار الوطن الذين باعوا ضمائرهم لغايات شخصية، والمعلوم أنّ الفاسد يبقى فاسداً والخائن يبقى خائناً حين يعمل على إسقاط هيبة الدولة ومنعتها، ظناً منهم أنّ غضب الشعب في القمقم، وأنّ الجرأة في رفع الصوت، لن تكون بهذا الحجم داخلياً وفي بلاد الانتشار، التي فجرتها روائح الصفقات والاتفاقيات التي أنتجت شركات لجمع النفايات مدعومة من بعض حيتان السياسة، الذين أصبحوا من جهابذة العارفين بجمع المال الحرام، والمسؤولين عن إفقار الشعب وموته السريري البطيء من الجوع والإهمال، والمسبّبين هجرة الأبناء واليأس، وعدم القدرة على دفع فواتير الاستشفاء والدواء في ظلّ رواتب ضئيلة، ووظائف مخصخصة، وضرائب تسحب من جيوب الفقراء وغلاء مستشر بسبب عدم الرقابة الفعلية من الوزارت المختصة، إضافة إلى الشحّ المائي وانقطاع الكهرباء المستمرّ منذ ثلاثين عاما وأكثر، وقانون السير التي تصل مخالفاته ومقدار العقوبة إلى المليون ونصف المليون ليرة لبنانية، يعني أكثر من الحدّ الأدنى للأجور، وجعلتهم لا يدركون حجم صرخة الغضب في الساحات وأمام السفارات اللبنانية في الخارج، وعلى الأتوسترادات في المناطق اللبنانية كافة، بصريح العبارة ثورة غضب صارخة تدين رموز السلطة تفجرت ولن تخمد بسهولة إنْ لم يتمّ تداركها بخطط سليمة تنقذ رئاسة الجمهورية بانتخاب رئيس قوي، يعرف كيف يحاسب الفاسدين ويردّ أموال الشعب إلى الخزينة.
فيا سادة الوطن النجّب، تستطيعون إرجاع مشاعات الأراضي إلى أصحابها الحقيقيين، أيّ الشعب، وذلك بتأمين مساكن للشباب تقضي على العنوسة التي بلغ معدلها في لبنان 85 في المئة أعلى نسبة في العالم، ومن رصيد الأملاك البحرية يتمّ تأمين سلسلة الرتب والرواتب التي تحرّك الدورة الاقتصادية للتجار في الوطن، ولعلكم لم تسمعوا بالأمس صرخة أحد الشباب الجنوبيين الذي قال من على شاشة أحد التلفزيونات: صار عمري 27 سنة وما تجوزت وهذا حقي الشرعي، لا أستطيع تأمين بيت، شو بدي أعمل، شو بقالي للمستقبل؟ السؤال: أليس من حقه أن يبني أسرة شرّعها الله في شرائعه المنزلة، وجعلها أمراً ثابتاً لاستمرار الحياة والنسل؟
الكلام يطول، والدولة على شفير الهاوية، والحلّ ليس بإفراغ الوطن من مؤسساته الرسمية، بل بيدكم أيها المسؤولون الحلّ المناسب الذي يحفظ لبنان من الانهيار، لهذا المطلوب التوجه السريع إلى مجلس النواب والاعتصام داخله، كما فعل الإمام السيد موسى الصدر حين اعتصم في العاملية أثناء الحرب الأهلية اعتراضاً منه عما يجري بين أبناء الوطن الواحد، حتى يتمّ الاتفاق على انتخاب رئيس قوي للجمهورية مقرون بإصدار قانون جديد للانتخابات على أساس النسبية. فالوطن بحاجة إلى جهود الجميع وليكن الاتفاق قائماً على من سيكون رئيساً جديداً للحكومة ومن في نيته الانطلاق نحو بناء الوطن يداً بيد مع رئيس الجمهورية ورئيس المجلس النيابي من أجل عودة لبنان إلى صحائفه الأصيلة وصفحاته المرموقة التي جعلته سابقاً وطناً للإبداع والإشعاع والنور.