الواقعي الحديث والتحوّل الوجداني 5

الدكتور نذير العظمة في كتابه «أدب المقاومة بين الأسطورة والتاريخ» يقدّم للقارئ دراسة تغوص في أعماق العلاقة بين الشعر والثورة، وحدود تأثير الواحد منهما في كينونة الآخر، مقدّماً من أجل توضيح ذلك أمثلة عديدة عن ثورات كبيرة وقعت كالثورتين الفرنسية والبلشفية الروسية.

لقد حاول الدكتور العظمة أن يعالج بنفسٍ فلسفي عملية الانبثاق الثوري والانبثاق الشعري وطبيعة العلاقة بين الاثنين وكذلك دور الإيديولوجية في هذا الشعر.

يتكلم المؤلف في مقدمة الكتاب ـ الدراسة عن الموروث التاريخي لدى معظم مفكرينا وكتّابنا والمتعلق بالتبعية للحضارة الغربية والانبهار بها، والتي شكّلت لوقتٍ طويل عاملاً مانعاً من توليد الإبداع عندنا.

يتوزّع الكتاب على خمسة أبواب تعالج في الباب الأول شعر النضال الجزائري والتجربة الثورية، وفي الباب الثاني اتجاهات الشهر المقاوم والكفاح الفلسطيني. أما في الباب الثالث يتطرّق إلى المرأة المقاومة، وفي الرابع يشير إلى الرؤية العربية، أما في الباب الخامس فيتكلم على الشعر المقاوم بين الوظيفة التاريخية والفنية.

و«البناء» إذ تنشر الدراسة على حلقات فلأنها تعتقد بأنه من الضرورة بمكان إبراز طبيعة العلاقة بين المقاومة والشعر، وطبيعة العوامل المؤثرة سلباً أو إيجاباً، الأمر الذي أبرزه الدكتور العظمة في دراسته.

سنعرض في هذا العدد مقاربة الكاتب لعدد من شعراء المقاومة الفلسطينيين وتجربة كل واحد منهم في الانفعال الوجداني والواقعي مع القضية الأم. يعتبر العظمة أن الشاعر توفيق زياد كان موزّعاً بين الشفافية المتموّجة بأشواقه للوطن وواقعيته الاشتراكية، في وقت كان قادراً على إقناعك بفكرته في قصيدته «مرج ابن عامر»، حيث تألقت شفافية الشاعر حنيناً للأرض السليبة.

ويستخلص العظمة: «إن معظم الشعر المقاوم في شعرنا العربي الحديث هو شعر وجداني في الجوهر، حيث ينبثق شعر المقاومة من وجدان ملتزم ترتبط فيه الذات بموضوع القضية القومية».

ويشير الكاتب في مكان آخر إلى أن معاناة الشاعر الحديث تتصل اتصالاً قوياً بالعصر وتياراته الفكرية والعقائدية والسياسية والفنية.

يعرض الكاتب الشاعر محمود درويش فيعتبره غارسيا لوركا العرب من حيث أنه يعبّر عن تراجيدية الشعب الفلسطيني. محمود درويش الشاعر الذي انتقل من إيقاعات الصور والاسترسال التأملي إلى النزعة والميل نحو التجريب مجارياً شعر الحداثة خصوصاً في قصيدته «بيروت».

أما كلامه عن الشاعر أحمد القدومي فيشير إلى أنه انطلق من الذات التي تتلبس الوطن والتاريخ وجهاً واحداً، فهي ابتهال للذات، للأمومة الضائعة والوطن الذي انفصلت عنه.

أما المتوكل طه فيعبّر كمعظم شعراء فلسطين عن جوهر النضال المتمثل بتمكين الذات من الصمود بوجه الاغتصاب وحفظ الهوية من الضياع خصوصاً في قصيدته المغناة «الحاكم بأمر الله».

أما الشاعر ماجد أبو غوش فيراه الكاتب مستمراً في التعبير عن الانفصام وأزمة الذات والتحوّل من الواقع إلى ما وراء الواقع.

يتوهج شعر توفيق زياد بشفافية ملتهبة حين يترك الذات الشاعرة تبوح بأشواقه لأرض الوطن أو تكشف غطاء العتمة عن أرض الطفولة فيلبسها غلالة من حنين، بينما تقتصر قصائده الواقعية الاشتراكية على انتقاء حقائق اجتماعية أو تاريخية وسلكها في القصيدة بنبرة منفعلة تهدف إلى الإقناع باتجاهه العقائدي وأفكاره المنبثقة عنه فتحكم ببوحه الشعري وتحل الفكرة محل الانفعال والعاطفة على رغم نبرة الشعر. لكنه أقدر على التوصيل الشعري حين يستسلم لذلك البوح حين يلح على إقناعك بفكرته في قصيدته مرج ابن عامر يتمثل شيئاً من هذا في أجزائها الخمسة ولكنها تصل إلى أوجها الشعري في الخاتمة:

الصوت والرائحة والشكل

يا جذر جذري!! إنني سأعود حتماً

فانتظرني. انتظرني في شقوق الصخر

والأشواك، في نوارة الزيتون، في

لون الفراش، وفي الصدى والظل،

في طين الشتاء وفي غبار الصيف،

في خطو الغزال، وفي قوادم كل طائر..

شوق العواصف في خطاي،

وفي شراييني..

نداء الأرض قاهره

أنا راجع، فاحفظن لي

صوتي.. ورائحتي.. وشكلي

يا… أزاهره

احفظن لي

صوتي.. ورائحتي.. وشكلي،

يا أ… ز… ا.. هـ …ر!!

في قصيدة كهذه. تتألق شفافية توفيق زياد بلهب الحنين للأرض السليبة والحب والانتماء إلى الوطن منسابة حتى نصل ما بين الشطر والشطر ملقية تقسيمات البيت الشعري الكلاسيكي لا بمصراعيه فحسب بل باتصال الجمل ما بين الشطر والشطر بإيقاع منطلق البحر الكامل فما كان عيباً في البلاغة القديمة، واصطلح عليه «بالتضمين» يصبح سمة من سمات الأسلوب الشعري في القصيدة فالمعنى، وبالتالي الجملة المؤدية، ينساب في الأشطر ولا يراعي موسيقية الشكل للبيت الشعري كمدماك أولي ولبنة نواة القصيدة فتتداخل المعاني والصور والأبيات، بعد أن كانت تراعي الصدور والأعجاز والبيت الشعري ومصراعيه لدواعي إنشادية غنائية. ومرد ذلك هو المعاناة المتأججة في الداخل التي تسكب الشكل الموروث للقصيدة ومفرداتها بأشكال وأساليب جديدة كما انفتاح الشاعر على التراث الإنساني العالمي ووضع في وعيه نماذج غير موروثة لا للقصيدة فحسب بل لمفهومها وصورتها وإيقاعاتها والمذاهب الشعرية.

وقصيدة «مرج ابن عامر» لا تخطئ انتسابها إلى الوجدان الشعري لكن الشاعر يلقحها بصور الواقعية الحديثة وطرق تعبيرها ويتأكد لنا ذلك حين نقرأ في أعماله الكاملة بعد قصيدة مرج بن عامر قصيدتين «أشجار الصفصاف الباكي» و»بتروغراد» وكلاهما ترجمة تعرف عن ناظم حكمت الشاعر التركي الماركسي الذي يمثل مع بابلو نيرودا والشاعر غارسيا لوركا أهم رموز تلك الواقعية.

إلا أن القصائد المترجمة تحتفظ بمفردات الواقع المشكّلة للقصيدة بينما تتوغل قصيدة زياد في عالم الوجدان ونبرته.

استخلاص

إن معظم الشعر المقاوم في شعرنا العربي الحديث هو شعر وجداني في الجوهر، يتصل اتصالاً وثيقاً بتقاليد القصيدة العربية وتاريخها، مصطلحها الشعر ولغتها وبيانها وأوزانها وإيقاعاتها المتطورة ونظرية أغراضها.

ينبثق شعر المقاومة من وجدان ملتزم ترتبط فيه الذات بموضوع القضية القومية. وهو موقف نعرفه في تاريخنا الشعري منذ تحوّل الشعر عشية انتصار الدعوة الإسلامية وتأسيس الدولة في المدينة بعد الهجرة النبوية 622م كما نعرفه في شعر الفرق الإسلامية الخوارج والشيعة والحركة الصوفية. فالأولوية للعقيدة والفكر والوجدان الشعري بالإضافة إلى أن ارتباط الذات الشاعرة ينبثق من قناعات فكرية وإيمانية.

إلا أن التزام الشاعر الحديث ليس استمراراً لهذه الالتزامات القديمة وتأصيل عقيدة الالتزام لا يتضمن بالضرورة موقف الشاعر الحديث ومعاناته الشعرية.

إن معاناة الشاعر الحديث تتصل اتصالاً قوياً بالعصر وتياراته الفكرية والعقائدية والسياسية والفنية.

إلا أن تقاليد الوجدان الغناء راسخة الجذور في تقاليدنا الشعرية. وما جاءنا في العصر الحديث من نظريات جديدة إن في النقد أو في الإبداع تَموضَعَ عضوياً في دائرة هذا الوجدان.

وجاءت النزعات الشعرية الحديثة لتخفف من سيطرة الغناء والوجدان ولتضبط الانفعال الشعري بتقنياتها المركزة قبالة سيطرة العاطفة بين جزالة ورقّة.

الصور الحسية مع التصويريين كانت وسيلة تقنية لضبط الحساسية الشعرية وتركيز الانفعال في أيقونة الصورة المركزة.

القصيدة المنبثقة من مسرح الواقع بعناصر مختارة والموصوفة مرة بالواقعية وأخرى بالواقعية الاشتراكية وأخيراً بالواقعية الحديثة ظلت في شعر المقاومة مرتبطة بالوجدان والغناء على رغم محاولاتها للتفلت منه.

ويظل الوجدان الشعري هو الجوهر، على رغم توسله بعناصر من واقع النضال والممارسة. وهكذا فإن انفتاح الوجدان الخبيء في النفس والذاكرة على نظريات الإبداع الشعري الوافدة من التراث الإنساني، لا سيما الغربي، أدى إلى ثراء القصيدة، قصيدة المقاومة، وساعد في تشكّل الانفعالات الثائرة في صيغ فنية تعانق فيها الذات الموضوع والموضوع الذات. فكأنما أصالة الوجدان ومنطلق الواقعية الحديثة وتقنية المعادل لموضوعي امتزجت جميعاً في مصهر التجربة والمعاناة الشعرية وانبثقت قصيدة مقاومة موحّدة حديثة بأصوات متنوعة ومتعددة لذات كلّية واحدة.

محمود درويش… غارسيا لوركا العرب

توقف قلب محمود درويش عن النبض لكنه لم يمت… انتقل إلى المقلب الآخر، ولا يزال صوته الشعري العذب يصدح في ذاكرتنا القومية وذاكرة الإنسان عن مأساة شعب بكامله هجّر من أرضه… من قراه ومزارعه وبيوته وبياراته التي تشع برائحة أيديه المحبة حتى لكأن البرتقال كان هويتها ورمزاً لها.

وقد قيض لهذا الشاعر الرائع وجيله أن يسطّروا الملحمة الفلسطينية قصائد تقفز من الوجدان… وتنبض من القلب وتحكي سيرة نضال عزّ نظيره في تاريخ الإنسانية. مدن بكاملها سُحبتْ من تحت شعب آمن… قُتل أبناؤه وشيوخه وأطفاله ونساؤه إلى حد الإبادة. ليسكن فيها يهود مهاجرون من أوروبا بالدرجة الأولى عانوا من الاضطهاد النازي بخاصة والغربي بعامة… واخترعوا خرافة حديثة أشبه بالخرافات التوراتية القديمة… وادعوا أن فلسطين أرض ميعاده… وحق لهم في زعمهم «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض». وقامت الصهيونية على هذا الزعم مسلحة بالمال اليهودي والمصالح الاستعمارية، ووظفت نفسها في خدمة القوى الغربية مالاً ورجالاً وخبرات ومعلومات جنّدتها في النزاعات الأوروبية بدءاً بالمحور ألمانيا وإيطاليا والحلفاء مروراً بالرأسمالية والشيوعية. وتهريب الخبرات النووية من طرف إلى طرف، وانتهاءً بمغازلة الصين كقوة واعدة في المستقبل. هذا التحدي الظالم لحقوق فلسطين التاريخية وشعبها الباسل ولّد حركة مقاومة بطلة تجمعت شرائحها في جبهة ثورية واحدة لترد على الخرافة والظلم وتواطؤ المصالح الاستعمارية بنهضة شعبية سمّها مقاومة… أو سمّها ثورة لكنها حركة دائمة لا تهدأ حتى تحقق الحلم بالوحدة والنهضة والدولة. وتعرّي مزاعم الصهيونية التي سوّقت نفسها هنا أو هناك في النزاعات العالمية.

المقاومة بالبندقية جزء من هذه الثورة جوهرها الدفاع عن الحضارة والعدالة والإنسان. ولكن المقاومة بمفهومها الأوسع عبرت عن نفسها بالمعرفة والفن والشعر. وولد تاريخ ناصع في حكومة اللهب… لم تكن الاستراتيجية الدفاعية في ساحات النضال منفصلة عن إيقاعات الدبكة وجمال الثوب الفلسطيني. وهدير القصائد… ودرامات المسرح… وقاتَل المقاومون بكل الوسائل المتاحة لتثبيت الهوية المغتصَبة.

هذا المناخ النضالي العام أدى إلى خلق الملاحم. لكن المعاناة الدائرة على الأرض فجّرت الوجدان قصائد… لا تزال تصدح في بال الأجيال، لا سيما أن كثيراً من شعراء المقاومة كانوا ممن عانوا من لهيب العراك تهجيراً وتشريداً وسجناً وقتلاً واغتصاب حق وأرض. واختلاس ممتلكات ومال وتزوير تاريخ واقتلاعاً من أرض الوطن.

والقانون الدولي لم يسكت عن هذا فحسب، بل أظلّه بالرعاية والحماية… يا لها من مأساة إنسانية في الجوهر. ومحلّية وطنية في المظهر… هذا التناقض أشبه بالتناقض الدرامي في مسرح سوفوكليس الذي يلمع إليه محمود درويش في بعض قصائده. فدرويش في شعره يعبر عن تراجيديا الشعب الفلسطيني ولكن بصوت غنائي. ويختزل دماء المآسي التي لا تعدّ ولا تحصى، مآسي الإنسان في أرضه وبيته وحقله ومدنه، يقتل جهاراً نهاراً، ويُحمى هذا القتل بالبروتوكولات الدولية… هل هنالك دراما أكثر تناقضاً من دراما الشعب الفلسطيني التي لا تزال دائرة على المسرح؟!

وما الذي يجعل صوت محمود درويش عذباً نابضاً متألقاً في هذه العتمة التاريخية غير الإيمان بالإنسان والانتماء إلى حضارة لا تزال بذورها تعطي العالم فنوناً وثمرات… ومحمود درويش من مدينة الناصري السيد المسيح. فتح عينيه على الاضطهاد والعذاب والتحامل. عانى الأسر والسجن والاغتراب في أرضه ووطنه وبيت أبيه… من محتل غاصب ومستوطن غاشم.

كيف واتت صوته الشعري تلك العذوبة تحمله إلى وجدانات الناس وقلوبهم من دون أي حواجز. لولا أن تتنفس رئتاه بأنفاس المصلوب… وعبق صوته برخامة أصوات الشعراء الأنبياء. فالحرية في شعره تعانق العبودية لتبعث الإنسان في قلب حجّره الاضطهاد والطغيان على المقلب الأوروبي. فجاء إلى أرض المسيح ليصلبه مرة أخرى في ضوء التاريخ… وبسلطة روما الجديدة الباغية في البيت الأبيض الأحمر في آن.

الصورة الشعرية المتألقة تنزل من القلب الصادق كالثمرة من الشجرة في نصوصه المبكرة تتكلم عن الفلسطيني كشجرة زيتون مباركة. يكاد زيتها يضيء… يفترسها الطمع اليهودي ويصادر بركتها بالبغي والعدوان.

لا بد إذن من الصمود… لا بد من القتال… لا بد من التضحية بالجسد الفاني من أجل بقاء الروح الإنسان والجسد والحضارة، والرحم الذي حمله المسيح إلى العالم كله وأضاء التوحيد مشعاله للبشر في أنحاء الأرض كافة بالوحي والحق والمعرفة.

لا عجب إذن أن يرشّح درويش في حياته أكثر من مرة إلى جائزة نوبل، فالضحية تعانق الجلاد مزوّدة بمحبة الإنسان والله وتسمو بالوحي الإنساني على معراج النور.

في مقدّمته الموجزة لأعماله الشعرية الكاملة في المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت 1973 والتي احتوت على نتاجه في المراحل الأولى قبل الخروج إلى بيروت يؤكد لغته الشعرية المميزة والمتطورة وانتماءه إليها ولكنه يلمع أن وجهه في المرآة القديمة… لا يعني أن يستمر على الصورة نفسها في المراحل اللاحقة. لا سيما بعد خروجه من الأسر. يحتفظ بحق المغامرة الشعرية مع بركة الجذور وطفولته الشعرية. لكنه منفتح على التطور والتراث الشعري عندنا وفي العالم.

ويعبّر عن هاجس صادق نبيل رافقه في شتى المراحل، ألا وهو أن يقبل شعره بمعايير العطش إلى الإبداع وأن يقوّم في هذا الإطار، لا إطار الحماسة والخطابة الفارغة. وهو لعمري تطلع حق لعب دوراً أساسياً في تطوير القصيدة الدرويشية من أغنية سلسة عذبة مكتنزة بالعاطفة إلى قصيدة لا تقل عذوبة. ولكنها تحمل أسئلة وتأملات تجعلها ذات بعد إنساني وكوني يمكن أن يتذوقها العربي وغير العربي.

ومن هنا نفهم كيف يرجو قراءه ألا يطلبوا منه أو من شعره أن يصفق للقادة أو يحمّس المناضلين. بعد عشر سنوات من التعبير عن هذا الهاجس في مقدمة أعماله الشعرية الكاملة، يعود ويؤكد هويته الشعرية المرتبطة بالإبداع في مقابلة في مجلة «الكرمل» 1983 في العدد السابع بعد الخروج من بيروت. ومنذ قصيدة «سرحان يشرب القهوة في الكفتيريا» يخرج درويش في شعره من وحدة البيت والغناء الذاتي إلى وحدة القصيدة والتأمل الحضاري والإنساني والكوني. يتصل بتساؤلات النفس وحيرتها الجميلة من دون أن يتنكر إلى جذوره الحضارية في مجموعته «أحد عشر كوكباً» التي يمكن أن نعتبرها رائعة أعماله.

القصيدة عنده لم تعد إيقاعات مشحونة بالصور بقدر ما أصبحت وحدة مدورة أعطاها التحرر من القافية ووحدة البيت القدرة على الاسترسال التأملي والفكري لأزمة الإنسان والوطن والحضارة. ولعل التدوير في قصائد شعر التفعيلة الذي مارسه درويش في قصيدة «سرحان…» أعطاه حرية أوسع في طرح الهموم الفكرية بالإضافة إلى الهموم النفسية بلغة شعرية فيها مرونة النثر وحلاوة الشعر وإيجازه وتكثيفه.

بعد قصيدة «سرحان…» المطولة هذه، عبرت قريحته الشعرية عن نزعة وميل إلى التجريب مجارياً شعر الحداثة.

في قصيدة «بيروت» التي على إتقانها وإحكامها ظلت الجملة الشعرية فيها والإيقاعات أكثر انتماء إلى البنيات الشعرية المتداولة في حركة الحداثة الشعرية العربية. لا تزال وحدة البيت ظاهرة فيها ولو أنها وظّفت في خدمة القصيدة. ولا يزال الغناء وهيمنات الوجدان هي الغالبة.

أما في مجموعته «أحد عشر كوكباً» فكأنما محمود درويش يتغنى بقصيدة روائية من الرواية والسرد الذي يقابل النزعة الغنائية السائدة في شعرنا عامة.

لا يستعين فيها بالصورة الشعرية البيانية المعروفة بل تتحول الأفكار إلى صور وتساؤلات ورؤى كثيراً ما يمتزج فيها البصري والسمعي لطرح أسئلة شعريتها تكمن في غير الإجابة.

مؤطرة بالتاريخ الضائع في الأندلس الذي يذكرنا بالتاريخ المذبوح في فلسطين. يحلم بالعنقاء لينهض من الموت.

والكمنجات التي تئنّ في القصيدة تذكرنا بنغمات لوركا الإسبانية ونفحاته الدرامية في شعره.

فحركة المقاومة الفلسطينية ليست معزولة عن حركات المقاومة عندنا وفي العالم من ناحية روحها وأهدافها وتجلياتها الشعرية والفنية. كما أن قيادتها كانت على اتصال ملموس بحركات التحرر إلى درجة التنسيق أحياناً ضد قوى الاحتلال والعدوان.

والعقائد المناهضة للإمبريالية الغربية واستراتيجياتها الشعرية والفنية وجدت سبيلها إلى مخيلتنا الإبداعية وتطلعاتنا الفكرية، لا سيما مع محمود درويش وتوفيق زياد وسميح القاسم. هؤلاء كانوا بمثابة مناة واللات وعزى الشعر الفلسطيني المقاوم. ولكن على رغم المؤثرات الماركسية في خلفياتهم العقائدية والسياسية إلا أن توفيق زياد انفرد بينهم بتبني الموقف الفني للواقعية الاشتراكية في شعره. بينما اتصل محمود درويش وسميح القاسم اتصالاً وثيقاً بشعر الوجدان والغناء Lyric . فكلا الشاعرين يعبر عن الذات في تناوله للموضوع فالذات حاضرة على امتداد القصيدة بينما نجد توفيق زياد في قصائده الواقعية الاشتراكية يقدّم الموضوع على الذات كما في قصيدة «غاليليو عام 400» مثلاً لا حصراً، ولدراسته في الاتحاد السوفياتي وإقامته هناك أثر في ذلك. وشعراؤنا هؤلاء أقرب إلى غارسيا لوركا وبابلو نيرودا منهم إلى لويس أراغون وبول إيلوار، فالتعاطف الماركسي عند هذين ظل محكوماً بالقناعات السوريالية التي انتموا إليها في مراحل التكوين فانعكس ذلك على رؤياهم وحدسهم الشعري وتعاملهم مع اللغة على رغم توظيفهم للشعر والفن في خدمة أغراض حركة المقاومة.

إن أي تطوّر في مضمون القصيدة العربية يؤدي إلى تطورات في شكلها وأسلوبها والاتجاهات الشعرية التي تعبر عنها.

وما من ريب أن التحديات العقائدية والوجودية المداهمة للوجود العربي التي فرضتها عوامل الاستعمار والاحتلال والاستيطان استدعت استجابات لا في الفكرة والصورة والعبارة بل أدت إلى تعبيرات ثورية وجذرية في اللغة والإيقاع ومفهوم القصيدة والإلهام الشعري والفطرة والصناعة. وكان لمحمود درويش حصة الأسد في الإضافات الجديدة قصائد بأشكال متعددة ولكنها انبثقت من جوهر واحد.

فلينم محمود درويش قرير العين وليطمئن أن شعره، معظم شعره، نتلقاه بمعيار الإبداع والإضافات على تراثنا الشعري لا بمقدار الخدمات التاريخية التي أداها في ساحة المعركة فحسب. وأن وقوده الشعري سيدفع عربة التاريخ باتجاه فلسطين النهضة والوحدة.

إن شعراء الحركة السوريالية في فرنسا أراغون وإيلوار وغيرهما. لم يكونوا أكثر نجاحاً منه في شعرهما المقاوم. إنهم جميعاً ابتكروا من المقاومة ثيمة فنية مبدعة وعلامة على انتصار الإنسان على الشر بالانتماء والحرية.

لقد استطاع درويش أن يوفّق بين الإبداع والوظيفة الاجتماعية والوطنية في مجمل قصائده. لأنه بالمشاركة يصدر عن معاناة واقعية للأزمة. فمنفعتها للحركة الوطنية والمقاومة لا تعتم على قيمتها الإبداعية والجمالية.

وختاماً، ليس من المبالغة أن نقول: إن محمود درويش في حياته وشعره هو غارسيا لوركا العرب…

فلنستمع إليه وهو ينشدنا افتتاحية مجموعته الشعرية: «أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي» بلغته وصوته في خاتمتنا هذه:

في المسا الأخير

على هذه الأرض

في المساء الأخير على هذه الأرض نقطعُ أيامنا

عن شُجَيراتنا، ونعدُّ الضّلوع التي سوف نحملها معنا

والضلوع التي سوف نترُكُها، ههُنا… في المساء الأخير

لا نودّع شيئاً، ولا نجد الوقت كي ننتهي…

كلُّ شيء يظلُّ على حاله، فالمكان يبدّل أحلامَنا

ويبدّل زوّارَه، فجأةً لم نَعُد قادرين على السخرية

فالمكان معَدٌّ لكي يستضيفَ الهباء… هنا في المساء الأخير

نتملّى الجبال المحيطة بالغيم: فتحٌ وفتحٌ مضاد.

وزمان قديم يسلّم هذا الزمانَ الجديد مفاتيح أبوابنا.

فادخلوا، أيها الفاتحونَ، منازلنا واشربوا خَمرَنا

من موشّحنا السهلِ. فالليل نحن إذا انتصفَ الليلُ، لا

فجْرَ يحمله فارسٌ قادمٌ من نَواحي الأذانِ الأخير…

شايُنا أخضر ساخنٌ فاشربوهُ، وفُستُقنا طازج فكُلوه

والأسرّةُ خضراءُ من خشب الأرز، فاستسلموا للنعاس

بعد هذا الحصار الطويل، وناموا على ريشِ أحلامِنا.

القدومي المخضّب بالوطن

تنطوي معاناة الشاعر أحمد القدومي على أبعاد جوهرها ينطلق من الذات التي تتلبس الوطن والتاريخ وجهاً واحداً ينطق بلسان هذه المعاناة شعراً يخرج من القلب.

ويبادرنا الشاعر منذ مطلع القصيدة بالطفولة المنفية والعودة إلى الأم لإلغاء هذا النقي على الأقل من الناحية النفسية فيخاطبها ذاتاً تتلبس الوطن الخرافي لكنها منفيّة.

أماه…

جئت من المنافي

أحمل الذكرى

وتحملني الليالي

نحو درب لا أراه

ولست أعرف من ينادي

من بعيد

كل المواسم في دمي

غضب

ولحن الأرض نجوى

النسائم

قصة للحب يرسمها

الهوى

نغماً

على شفتي

نشيدي

لكن عذابات النفي والانفصال عن الوطن والأمومة تتحوّل إلى نشيد يهدر من الأعماق ويتموّج بين الغضب واليأس والضياع ويتكثّف معنى النفي لا في ذلك فحسب بل في أنهم:

ذبحوا القصائد

والنوارس

والعصافير الجميلة

في الفؤاد

من الوريد

إلى الوريد.

وتعويض هذا الموت بالذبح يتجسد في خلود الشاعر الذي يبتلي بالعشق، وفي طوفان المأساة لا يجد من يمدّ يداً إلى الوطن الغريق. لذا يشعر بالموت الذي لا حياة فيه:

فأنا وموتي توأمان

زمن الأمومة

دمعتان

ويقول أيضاً:

أنا موعد للموت

فاكتب أيها الموت قصيدة

يا أيها الوطن الذي

سمتك أمي

وردة

أتت الأمومة

والوطن

وصيغة الفداء التي تتكرر في مقاطع القصيدة المطوّلة تُنبئ عن غليان النفس في لهب المأساة. لكنه لا يغادر المسافة ما بين الوطن والأم. ولأن الموت لا مخرج منه يتحول الشاعر بالتمني عبر المناجاة التي يسوقها للوطن إلى سحابة، سحابة لقلب الأم الذي أقصاه النفي عنها كما أقصاه عن الوطن. لكن الفجر يأتي حينما يخيّم غبش الليل هلى الأفق:

صبرا ويافا توأمان

موتي وموتك توأمان

حيفا تناديني

يافا تناديني

ودم الشهيد على ثرى

وطني يناجيني

والقصيدة كلها على هذا المنوال، كأنها آهة لا تنتهي «كارتحال ربابة تبكي» ولا يجد الشاعر مخرجاً من الموت إلا أن يصير قمراً يحمله الثرى للوطن:

إلى عينيك يا وطني

أطير مدارات المدى

نغماً يناجيك

ابتهالاً

فالقصيدة ابتهال للذات، للأمومة الضائعة والوطن الذي انفصلت عنه. وتتردد هذه الذات ما بين الذروة والهاوية لكنها لا تفقد الأمل بالابتعاث من خلال النغم.

والقصيدة من القصائد المطولات، وهي أشبه بنزيف هادر لنفس ترجم الغدر بالشعر من دون أن يستجيب إليها.

لذلك وجدت في منطلق الكامل مستقرها، مستعينة بتقفية الأطراف مرة والقوافي الداخلية مرة أخرى. لينطلق الشاعر من انهمار إلى انهمار آخر. وهو بذلك يريد من المتلقي أن يشاركه هذا الهدير المستمر في الداخل.

والقدومي شاعر يولّد المعنى من المعنى والصورة من الصورة من دون أن يتوقف. لكنه غالباً ما يكون أليفاً ولا يضرب بينه وبينك ستاراً من الإبهام. يترك لعفويته الشعرية أن تصارحك وتصل إلى قلبك. ولعله يتوسل الاسترسال لا الإسهاب ليؤكد اللهب الذي يتموج في الداخل.

وأنت تقرأ القصيدة لا تخطئ صوت الوطن من خلال صوت الشاعر ولاتخطئ أن الحنين إلى الأم إن هو إلا حنين إلى تراب الأرض، لكن المشاعر فاترة والعاطفة متفجرة في لغة شعرية أقرب إلى الذات منها إلى أي شيء آخر. حين تقرأ القصيدة تحسّ بأن القدومي يأتي من وطني خرافي هو الشعر ليعود بك إلى الوطن الحقيقي الذي يتخضّب بالعذاب والدم.

المتوكل طه وماجد أبو غوش

شعراء الأرض المحتلة يضعوني مجدداً أمام المأساة. فتعالوا معي لنخلع أقنعة الأسطورة والغربة السوريالية عن قصيدتَي المتوكل طه وماجد أبو غوش لنرى العالم بعينيهما ونحسّه كما أحسّوه.

إن جوهر النضال في التجربة الفلسطينية يقوم على تمكين الذات من الصمود بوجه الاغتصاب وحفظ الهوية من الضياع. تحرير فلسطين من النهر إلى البحر ينام في لا وعينا وينهض في بطولات الشهادة.

فمنذ اتفاق سايكس بيكو ووعد بلفور والصهيونية طامحة بإلغاء الهوية القومية للقضية الفلسطينة وإقصائها عن محيطها الطبيعي وعالمها العربي والإسلامي.

قرار المصير وقرار الحياة والموت يصنعه شهداؤنا بدمهم وذواتنا المقاومة التي ترفض الانحناء للإرادات الغربية لن تنحني لهذه الإرادات لأن حياتنا وعزنا يرتبطان في ما يجري في القدس اليوم:

إما التهويد وإما التحرير. وإقامة فلسطين التي استشهدت من أجلها الأجيال.

«قصيدة مغناة الحاكم بأمره» العنوان يستدعي الحاكم بأمر الله باعتبار الحكم ولاية أو تفويض إلهي. كما تستدعي الحاكم بأمر الشعب الذي يوحي التفويض الشعبي. فالشاعر، من خلال العنوان وزحزحة العبارة المأثورة، يوحي بالسخرية من ولاية الاستبداد والظلم والحاكم بأمره. فالقصيدة تصوّر الطاغية من خلال «مونولوغ» يرسم فيه الشاعر صورة الحاكم المستبد، راوياً إياها بضمير المتكلم. فالحاكم بأمر يملك البلاد والعباد والجنس والطبيعة والكون. ويسمو الشاعر بشخصيته الطاغية من الواقع التاريخي إلى الأسطوري والخرافي بلغة شعرية حديثة مبتكرة. يمزج فيها المجاز بالصورة الحسية، وينقل الشعر من الشعر الذاتي الغنائي إلى التصوير الحسي لشخصية الطاغية، موظفاً ضمير المتكلم توظيفاً درامياً موفقاً. فالطاغية كأنما يقف على خشبة مسرح متبججاً بقوّته التي لا تُحد. وجبروته الذي يطاول الإنسان والكون والطبيعة والمرأة.

ربما تحدّر الطاغية أصلاً من خرسان، لكن واقعاً يبزغ في كل مكان وزمان. فالطاغية في قصيدة الشاعر كونيّ عالمي. لكنه يشير إلى دلالات الطغيان الفردي الداخلي الذي ابتليت به السياسات العربية بما فيها فلسطين التي ينتمي إليها الشاعر.

لكنه في خاتمة القصيدة يربط الطاغية بروما، مذكراً بنيرون وغيره كما في قصيدة مطران الملحمية المعروفة.

إلا أن التدفق الشعري في القصيدة المتشبث بضمير المتكلم ونبرة التبجج بذات طاغية مشؤومة متورّمة يفاجئنا بمواربة في السياق الشعري مضموناً وشكلاً. فيصرّح الشاعر في ختام القصيدة بأن العبيد «قد حطّموا كل شيء، وروما العبيد ستهدم، إن غضبت، ألف روما وتحرق قيصر، وتحرق قيصر».

المشكلة هنا هي أن الشاعر أعطى مساحة القصيدة كلها لتبججات الطاغية، مصرّاً على سيطرته وطغيانه. لكن المؤلف في الخاتمة أزاح الطاغية وحلّ صوته محلّ صوته معترفاً: «أعرف لكنه فات أمري. ولات حين مناص وطيري مضى حيث قبري، ويا ليتني قد سمعت النداء فيا ضيعة العمرِ».

لكن العبيد يحطمون ذلك الطغيان المتبجر. فينتصر الإنسان بانتصار العدالة، الضمير المتكلم الذي توسّله الشاعر عبّر عن الطغيان ونقيضه بصوت واحد. وكان على فطرة الشاعر القوية المتدفقة أن تتجنب مثل هذا الوهن في الصناعة الشعرية درامياً، إذ كيف يختتم الطاغية تبججه بانكسار الذات والنطق بحقيقة التاريخ الذي لا يرحم الاستبداد ولا يكافئ الطغيان هذا الانقلاب الدرامي من صوت الجبروت إلى صوت الاعتراف بالوهن ونهايته المشؤومة يبدو متناقضاً وغير معقول.

يعتمد الشاعر على التدوير في إيقاع القصيدة العروضي، ويركب القصيدة، لا من وحدة البيت، بل من مقاطع مدورة. تفتح الأبيات بعضها على بعض لحاجة المعنى الدرامي إلى الخروج من الإيقاع الغنائي إلى التصوير الموضوعي في شعر مسرحي.

كما أن الشاعر يستبقي القافية في نهايات المقاطع، لا لوظيفة الغناء بل ربما لمساعدة الفطرية الشعرية على الانطلاق من معنى إلى معنى آخر من خلال الاسترسال المسرحي الذي يقتضي التحرر من القافية. فالمرسل خير من المقفى في الشعر الدرامي.

لكن الشاعر أحسن في استخدام بحر عروضي قريب من إيقاع الكلام اليومي، وهو البحر المحدث أو المتدارك أو الخبب ودمَجَ «فاعلن» بـ»فَعِلن» و»فعولن» في تركيبه العروضي.

نجحت قصيدة المتوكل بالتصوير الدرامي، لكنها لم تخلُ من بعض هنات الصنعة. ربما يحتاج الانتقال من النثر الغنائي إلى السرد الروائي في القصيدة صناعة أقوى وأكثر يقظة.

ولكن لا يمكن للمتلقي أن يقتنع بهذا الانقلاب الدرامي الذي يقفز عليه من الذاكرة. فالشاعر يستنجد بالموروث من المثل، مستعيناً بـ»لات حين مناص» لينهي القصيدة بخاتمة ذهنية تعوق السياق الدرامي الذي ينبت عليه.

قدماي تمشيان من دوني

ماجد أبو غوش في قصائده النثرية الثلاث: «رمان» و»جنون» و»ليل» يعبّر عن الشهوة والجنون وانفصام الجسد في زمن الاحتلال، دلالة على عدم التوازن وأزمة الذات.

ينخطف الشاعر مع واقع الاحتلال إلى ما وراء الواقع في صور سوريالية ورسائل شعرية على انعدام العافية في الزمن الصهيوني في الأرض المحتلة.

السوريالية، أصلاً، كانت انفجاراً للذات ضد الأهوال الخارقة التي عانتها المجتمعات الأوروبية في زمن الحرب الكونية الأولى التي كلفتها أكثر من عشرة ملايين جندي قتيل و21 مليون جريح من أجل أطماع اقتصادية في الجوهر ونفوذ الرساميل الأوروبية وتصارعها من أجل الهيمنة، والإيمان بأن المال والثروة أهم من الناس في أوروبا الصناعية. كذلك في فلسطين المحتلة المال والعنصرية والخرافة الهرمة أهم من الإنسان الفلسطيني. الصهيونية جاهزة للتصفية العرقية من أجل هذه الخرافة.

في قصيدة «زمان» يعبّر أبو غوش عن الشهوة التي تفترس الحب:

«أطبق عليها بشفتي

وبنهم شديد

أشرب ما يترقرق من عسل وماء…

… تستطيعون الآن

سماع تأوهات

شجرة الرمان

فالحب عند شاعرنا هو الإطباق على الحبيبة بشفتيه بنهم شديد. وما الشهوة هنا إلا إثبات للذات المنفية المقهورة المهددة بالزوال في ظروف الاحتلال والواقع المصطنع الذي يهدد بالإبادة. ينفصم الجسد الذي يمشي صوب الماء كناية عن عدم الأمان. وتنهض قدما الشاعر وتمشيان من دونه، وما من حل لهذا الانفصام بين الجسد والذات والذات والجسد إلا الجنون والخروج من الواقع إلى ما وراء الواقع ورفع راية القصيدة بانخطافاتها السوريالية في وجه الخرافة والعنصرية.

ويستمر أبو غوش في قصيدة «ليل» في التعبير عن الانفصام وأزمة الذات والتحول من الواقع إلى ما وراء الواقع. بينما يتوجه إلى الكرم يسبقه قلبه وفمه، كما يسبقه حصانه إلى النشوة وقرص العسل وحقل النرجس. لكن الباب مغلق والحرّاس على الأسوار وسيّدة الكرم لا تنقذ الشاعر من تحولاته السوريالية في الشهوة والهيمنة والخروج إلى الجنون. ينطفئ القمر والمصباح وتتحول صورة الإنسان الكريمة إلى ذئب الشهوة:

كان الذئب في دمي يعوي

وكان الندى يبلل وجهي

وكنت أعوي

فالعواء بوجه الظلام الكالح كل ما تبقى للشاعر.

وهكذا نرى أن القصيدة في الأرض المحتلة لا تعبر عن أزمة الذات في المجرد أو المطلق. إنها تنطلق من ظروف تاريخية يفرضها الاحتلال. يدمّر الإنسان والهوية ويستأصل الحياة ليقيم البؤس. ويسلط إرهاب الدولة على الحرية والطفولة ويرفع جدار الخرافة والقتل ضد الإنسان والحياة، ولم يبق للشاعر غير الجنون والاستذئاب وانفصام الجسد والصراع مع الطاغية في الداخل الخارج.

لم تتوقف المقاومة على شاعرينا، المتوكل وأبو غوش. ولكنها تتوسل المعاناة الإنسانية وترتدي كسوة فنية حضارية في ظروف متوحشة بربرية تحلم بالإبادة والمحو للهوية الفلسطينية لتحل محلّها هوية استيطانية، تمارس محواً منهجياً للآخر الفلسطيني الذي ينهض شاهداً على زيف الصهيوني وزيف حلمه العنصري بالإبادة والزوال.

فالمتوكل طه لا يتكلم في قصيدته عن الطاغية في المطلق، إنه قيصر روما الذي لا مفرّ له من ثورة العبيد الغاضبة. والشاعر في تصويره للظلم والطغيان يعبر عن أزمة الإنسان والمجتمع مما يكابده من الطغاة الصهاينة وأُجَرائهم من الداخل.

المتوكل طه يرتقي من العابر والتاريخي إلى الأسطوري والدائم ويتوسّل الدرامي والجمالي ليعبّر عن المعاناة التاريخية للذات الفلسطينية. إنه لا يحارب الطغيان من أجل الحرب بل من أجل بقاء الحياة والإنسان. وتتخذ مقاومته من الفن الشعري راية لها وحضارة ضد التوحش والبربرية.

وينخطف أبو غوش من الواقع إلى ما وراء الواقع، إلى الشهوة والجنون وانفصام الجسد، ليعبّر عن المعاناة نفسها في إطار سوريالي. وتعبر القصيدة بشكليها المدور والمنثور عن أزمة واحدة.

والارتقاء من التاريخي إلى الأسطوري في قصيدة المتوكل أو التحول من الواقعي إلى السوريالي في قصائد ماجد كلاهما يتوسّل تقنية شعرية مختلفة ليثبت هوية الإنسان والحضارة في الوطن الضائع.

إرم ذات العماد مدينة الحلم

هل تطلّع الإنسان إلى مدينة بشرية غير المدينة التي ولد فيها، يعيش ويموت. هل هو هروب من مدينة الطين الذي استلت منه سلالة الإنسان والبشر أو هو حلم بالفجر في سرير التراب والموت الذي يؤوي إليه المرء بعد كدح يوم أو عمر طويل لا ينتهي إليه الإنسان إلى طمأنينة السعادة من شقاء الجسد والنبض الإنسانيين على طريق البشر الذي تنتهي فيه الولادة إلى الموت.

هل لعبة الحلم بالخلود ورؤيا الخروج من نار الحياة وجحيمها إلى الجنة واللذة والسعادة هي عبث آخر أو تعويض خيالي عن حقيقة البشر التي لا يفارقها الموت وآخرة الجسد التي تصير إلى آخرة الروح التي تنعم بحلم الخلود في جنان المخيّلة.

«إرم ذات العماد» أصبحت حلماً عند الشاعر الفلسطيني بعد ضياع الوطن.

هل الحياة عبث لا يدركه الإنسان إلا حينما يصل إلى جدار الموت وعليه أن يختار، إما الحرية أو العبودية! إما الاستسلام للفناء والزوال أو بناء مدينة الحلم وخلود الإنسان، إرم ذات العماد.

غداً حلقة سادسة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى