بين الحوار والحراك
ناصر قنديل
لو لم أكن متأكداً من أنّ الرئيس نبيه بري كان يدرس جدياً مشروعه الحواري منذ شهرين على الأقلّ لوصفت كلّ قول بأنّ الدعوة ليست ابناً للحراك، بالمحاولة لحرمان الحراك من واحدة من إنجازاته بأنه فرض على من يسمّيها الطبقة السياسية الفاسدة التلاقي للبحث عن حلول تخرجها من المأزق الذي أدخلها فيه، والرأي العام شريك بالمعرفة بأنّ المشروع الذي أطلقه الرئيس بري في احتفال ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر يعود إلى زمن سابق لولادة الحراك، لأنّ مجرد العودة القريبة إلى الأخبار ستظهر رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي النائب أسعد حردان وهو يطلّ من منبر مؤسس الحزب في ذكراه موجهاً النداء للرئيس بري لإطلاق مبادرة حوارية إنقاذية، وستظهر حردان يزور بري شارحاً الدعوة وخارجاً مطمئناً إلى أنّ الفكرة موجودة لدى بري وقد لاقت تشجيعاً بدعوة الحزب له وأنّ بري سيجري الاتصالات الضرورية لضمان نجاحها قبل إطلاقها علناً، وهذا كله قبل تاريخ الثاني والعشرين من آب.
– لكن من المجافاة للحقيقة القول إنّ الحراك لم يلعب دوراً في إطلاق الدعوة للحوار وضمان تجاوب المعنيين الرئيسيين معها، فتردّد الرئيس بري بإطلاق المبادرة كان ينطلق من اعتبارين، الأول أن يجري التصعيد ضدّ مبادرته وتصويرها كمحاولة لتقاسم ميراث رئاسة الجمهورية التي كانت حوارات بعبدا حول الاستراتيجية الدفاعية تتمّ برعايتها، والثاني أن تؤدّي الانقسامات الحاصلة حول أداء المجلس النيابي وانعقاده والحكومة وآلية عملها إلى تحويل الدعوة صندوق بريد لتبادل الرسائل حول القضايا الخلافية بدلاً من تلقيها كمنصة للحوار حول هذه القضايا، حتى جاء الحراك وكشف الفراغ السياسي الذي تعيشه البلاد بغياب رئيس للجمهورية وتعثر انعقاد المجلس النيابي وتقطع وارتباك انعقاد الحكومة، مع مخاوف أن يدق الحراك باب القضايا الرئيسية للدولة ويجذبها نحو مسارات لا تبقى تحت السيطرة، مثل مخاطر الدخول في فوضى عامة ترتفع معها نداءات «الجيش هو الحلّ» وظهور نداءات داخلية وخارجية تقول، لا بدّ من التسريع بخطوة دراماتيكية من عيار انتخاب قائد الجيش رئيساً للجمهورية كمرشح من خارج نادي السياسيين المغضوبين لدى الحراك، والمطمئن للناس بالقدرة على حفظ الأمن بوجه خطر الفوضى المتدحرجة آنذاك.
– في المقابل طرح الحراك بسرعة استقطابه لجزء من شارع فريقي الحكم في الثامن والرابع عشر من آذار خطر انفلات زمام المبادرة السياسي في البلاد نحو مرجعية مبهمة، لم تولد في شكل ديمقراطي مؤسساتي كما هي حال قيادة التحركات النقابية، ولا هي قيادة حزب سياسي معارض يدق أبواب الحاكمين، بل مجموعة مغلقة من الناشطين المدعومين من وسائل إعلام فاعلة، يحدّدون أهدافاً وشعارات ويأخذون الناس إليها بقوة الغضب الناشئ عن عناوين مطلبية لم تعد ظاهرة كأهداف للتحرك، بل صار القيّمون على التحرك يصفون كل اقتراب مفترض من تلبية
مطالبهم الأصلية كمحاولة للاحتواء، وباتوا يجاهرون بأنهم يضعون مطالب يعرفون صعوبة واستحالة تحقيقها وضآلة المهل المحدّدة من قبلهم لتلبيتها قبل اللجوء إلى التصعيد، لأنهم لا يريدون المطالب إلا ذريعة للتصعيد، ما استدعى الحاجة إلى مقاربة العناوين المتداولة في الشارع والضاغطة عليه لمخاطبة الناس مباشرة وليس عبر قيادة الحراك التي رفضت كلّ حوار وتتصرّف بوضوح على قاعدة أنها أعلنت الحرب وتمتلك خطة النصر فيها. والنجاح في مخاطبة الناس يتوقف على التقدّم بحلول تلبّي التطلعات وليس مجرد التقاط الصور التذكارية للمتحاورين ونقل جلساتهم ومصافحاتهم على الهواء.
– انطلقت الدعوة إلى الحوار وتلتها الاستجابات السريعة من أطراف المتناقضات السياسية في البلاد، وبين الحراك والحوار جدولا أعمال، يلتقيان ويفترقان، ومن المهمّ محاولة معرفة فعالية الحوار في الجواب على أسئلة الحراك، سواء على قاعدة توظيف هذا المحفز الداخل على الخط لتحريك بلادة ورتابة وخمول القوى والقيادات السياسية في مقاربة القضايا الرئيسية الضاغطة سواء في الشأن الحياتي للناس أو في مجالات الحاجات الملحة للإصلاح السياسي للنظام الذي اهترأ وزادت فضائحية اهترائه بالتمديد غير المبرّر بأسباب قاهرة للمجلس النيابي، أولى القضايا التي لا بدّ من فحص مسارها هي رئاسة الجمهورية التي تتسرّب الدعوة لاعتبارها أولوية من بعض قادة الحراك ثم تغيب فجأة، وتندرج في المقابل على جدول أعمال الحوار، والفريقان يبدوان متفقين على أنّ الاستحقاق الرئاسي سيكون من حاصل تلاقح الحوار والحراك والمعطيات الدولية والإقليمية وموازين القوى خارج ما يمكن احتسابه بنداً جدياً على جدول الأعمال، بل يبدو أنّ حسن أداء كلّ فريق لمهماته في الحوار أو الحراك سيجعل فرص مرشحه المعلن أو السري للرئاسة أقرب إلى نيلها في توقيت ومناخ بما لا يتيح القول إنّ البند يحسم في الحوار أو يفرض عبر الحراك.
– تطرح في الحراك قضايا من مثل رحيل الحكومة واستقالة المجلس النيابي، ما لا يمكن توقع التقاطع حوله مع الحوار، فالحكومة باقية بقوة غياب رئيس للجمهورية والمجلس النيابي يرحل مع تحديد موعد انتخابات نيابية تشرف عليها حكومة عاملة، وفقاً لقانون يقرّه مجلس نيابي عامل، وهذا لا يمنع من أنّ السباق بين الحوار والحراك هنا قائم باعتبار الحوار امتحاناً علنياً لأركانه في أهلية مواصلة قيادة المرحلة قبل أن يصبح شعار ترحيلهم أشدّ شعبية ولو بقي أقلّ واقعية، بينما يطرح على جدول أعمال الحوار بندان لن يكون لهما سوى الدور التجميلي والتكميلي لأولويات الحوار وطنياً بالنسبة لبند دعم الجيش وتسليحه، أو الدور التبريري لمشاركة البعض في الحوار ضماناً لإنجاحه كمثل استعادة الجنسية، والبندان يبدوان خارج الأولويات التي تسمح طاولة الحوار بنقلهما إلى الصف الأول من الاهتمامات.
– ستكون مهمة الحوار المركزية إعادة تأهيل المجلس النيابي والحكومة لممارسة المسؤولية وسط الانقسام السياسي الواقع أصلاً حول الاستحقاق الرئاسي، وسيكون الحافز للمتحاورين لبلوغ تفاهمات تتيح هذا التأهيل الحؤول دون قفز الاستحقاق فجأة من أيديهم إلى لاعب مجهول يدخل على الخط بقوة القدرة على إنتاج حدث دراماتيكي من صدامات يستدرجها قادة الحراك مع القوى الأمنية وتأخذ البلاد إلى الفوضى، وعند النجاح بفتح دورة استثنائية للمجلس النيابي واستعادة الاجتماعات المنتظمة للحكومة وفقاً لتفاهم سلس على كيفية إدارة أعمالها، وصناعة الوفاق بين مكوناتها، سنكون أمام تكافؤ في نقطة الانطلاق الجديدة، تحتاجه السلطة ومن ورائها البلاد لانطلاق السباق بين الحراك والحوار حول قضيتين رئيسيتين، حلّ بيئي نظيف بعيد عن المحاصصة الطائفية والسياسية والفساد المالي والسياسي، وقانون انتخابي عصري يعتمد النسبية والدائرة الأوسع، وإنْ أمكن القفز إلى ما نصّ عليه اتفاق الطائف من دعوة إلى انتخاب أول مجلس نيابي خارج القيد الطائفي وتشكيل مجلس للشيوخ تتمثل فيه الطوائف وتناط به القضايا ذات الخصوصية والحساسية لدى الطوائف ومرجعياتها.
– بدلاً من انقسام البلد بين مؤيدين للحوار ومراهنين على الحراك، تدعونا العقلانية والواقعية، والمسؤولية الوطنية لدعوة الحريصين على البلد والمنزّهين عن الفساد والمشاريع المشبوهة في الحراك والحوار إلى جعل الانقسام بين تيارين، تيار حريص يدفع من داخل الحراك والحوار ويضغط ويستقوي بعضه بالبعض الآخر، لينطلق حلّ وطني للنفايات تكون البلديات عموده الفقري، وقانون انتخاب يعتمد النسبية ضمن حدود التوافق الممكن على الدوائر الانتخابية، يقابله تيار في الحراك يريد جرجرة البلاد إلى الفوضى تمهيداً لسرقة الاستحقاق الرئاسي، وتيار في الحوار يريد تقطيع الوقت من دون التقدّم أيّ خطوة جدية نحو حلّ بيئي نظيف بعيد عن الفساد لقضية النفايات ومن دون مقاربة جدية لقانون الانتخاب، ليتسنّى له اقتناص لحظة إقليمية دولية مواتية من أجل سرقة أخرى للاستحقاق الرئاسي.