هكذا فشلت خطة إنتاج 1559 جديد لوضع اليد على لبنان مجدّداً
العميد د. أمين محمد حطيط
فجأة تحرك الملف اللبناني حتى ظن البعض أن خروج لبنان من حالة الشلل التي يتخبط بها منذ أشهر طويلة ستجد نهايتها بين ليلة وضحاها فهل أن هذا الظن في موقعه الصحيح وإلى أين ستتجه الأمور في شكل فعلي خصوصاً أن التجارب السابقة لا تترك مجالاً واسعاً للتفاؤل بالحل، وأن في الماضي القريب تجربة القرار 1559 المؤلمة.
ومع ذكر القرار 1559 نتذكر أن أميركا بعد غزو العراق في العام 2003 تحركت باتجاه سورية «لإخضاعها من غير حرب» فصدمت بالصلابة السورية وشجاعة الرئيس الأسد في رفض المطالب التي حملها كولن باول إلى دمشق عندها قررت أن تنتقم على طريقتها وبالوسائل التي تملكها ومنها مجلس الأمن الذي كان لها مثابة السيف الذي تسلطه على رقاب معارضيها المتمسكين بسيادة بلدانهم، وفي غضون عام من الرفض السوري للإملاءات الأميركية كان القرار 1559، قرار جاء في شكله ومضمونه منافياً كلياً لميثاق الأمم المتحدة وتحدياً صارخاً للقانون الدولي العام لما شكله من تدخل وانتهاك للسيادة الوطنية اللبنانية وللعلاقات اللبنانية السورية، قرار فرض وصاية دولية على دولة مستقلة وعضو مؤسس في للأمم المتحدة.
لقد شكل القرار 1559 منطلقاً لمأساة لبنانية تنامت خلال السنوات العشر الماضية، حفلت بسلسلة اغتيالات لجأ إليها من قبل من عجز عن تنفيذ القرار على البارد، كما وتضمنت حرباً تدميرية شنتها «إسرائيل» على لبنان لمدة 33 يوماً في العام 2006، وأحدث انقساماً في الشارع اللبناني أدى إلى عجز ما كان يسمى دولة عن القيام بوظائفها الدولة في لبنان لم تتشكل بعد وفقاً لقواعد القانون الدستوري وانتهى الأمر إلى تعطيل أشباه المؤسسات الدستورية والوقوع في شلل سياسي تام تجلى في العجز عن انتخاب رئيس جمهورية بعد الفيتو السعودي، والعجز عن وضع قانون انتخاب يعيد تشكيل السلطة انطلاقاً من مصدرها الرئيسي أي الشعب كما والعجز حتى عن التئام مجلس النواب ومجلس الوزراء.
لقد أنتج القرار 1559 وصاية مقنعة وأحدث فتنة أكيدة في لبنان، لكنه فشل في تحقيق أهدافه الأساسية على رغم الكوارث التي أحدثها. نقول بهذا لأنه في المواجهة والحروب يميز بين ما تلحقه بالخصم من خسارة في الميدان وبين ما تحققه من انتصار يتمثل في تحقيق أهدافك فيها. ولا يعد منتصراً إلا من يفرض إرادته على خصمه ويجبره على التسليم بما يريد، الأمر الذي لم يتحقق لأميركا في لبنان من خلال القرار 1559 على رغم أنها تمكنت من تحقيق بعض ما جاء في القرار لكن ما عجزت عن تحقيقه كان هو الأهم، فقد عجزت أميركا عن شطب المقاومة ونزع سلاحها أو عزلها أو إخراجها من القرار الوطني.
واليوم يبدو أن المحاولة الأميركية لوضع اليد على لبنان تتكرر مستفيدة هذه المرة من عبر الماضي ومن واقع المنطقة بعد العاصفة الإرهابية التي تضربها منذ خمس سنوات ويبدو أن المخطط الأميركي عاد إلى الساحة اللبنانية ليعوض تعثره في الإقليم أو ليتخذ من لبنان مكاناً يحدث فيه خرقاً يساعده في رسم خريطة المخارج في المنطقة، تحول جاء خلافاً لما هو عليه التصور بأن لبنان ورقة فرعية في ملف المنطقة لا يبحث فيها ألا بعد الاتفاق على حل في المنطقة كلها، ويبدو أن المخطط لا يجد ضرراً من المحاولة حتى إذا نجحت استفاد منها في سورية وإذا فشلت تنصل من تبعتها وألقى المسؤولية على الأدوات المحلية.
أما مضمون الخطة كما يبدو فيتلخص بالقفز فوق الواقع وتخطي المطالب الوطنية الحقيقية والذهاب مباشرة إلى فرض أمر واقع يحجب الإرادة الشعبية عبر رئيس جمهورية يعيد تشكيل السلطة بما يناسب أميركا ويتم انتخابه من قبل مجلس نواب مغتصب للسلطة فيأتي رئيساً مطعوناً بشرعيته أسيراً لمن جاء به، انتخاب يجري تحت الضغط المركب المتشكل من دومينو متتابع الموجات يبدأ بتفاقم تردي الخدمات العامة، ينتج منه حراك شعبي احتجاجي، يستتبع تحرك الطبقة السياسية ويواكب بتحرك القيادات الدينية الطائفية ثم يظلل بتدخل أممي من مجلس الأمن من طبيعة القرار 1559. وبهذا نفسر بعض الظواهر والمواقف، كما نتوقف عند ردود الفعل التي أجهضت بعض جزئيات الخطة أو عرقلتها على الأقل حتى الآن كالتالي:
1 ـ لم تفلح أزمة النفايات في إخراج حراك شعبي يعمم المسؤولية ويدمج الصالح بالطالح لتحميل الكل صالح وطالح مسؤولية الفساد والتردي بما يخفف من مسؤولية الفاسدين الحقيقيين والمعروفين اسماً ووظيفة ويضغط على الآخرين لقبول انتخاب رئيس كيفما اتفق.
2 ـ لم ينجح المخطط في وضع اليد على الحراك الشعبي الاحتجاجي وتجييره دعماً لخطته، لا بل حدث ما لا يشتهيه وجاءت تظاهرة جمعة التيار الوطني الحر لتشكل صفعة قاسية له حيث وضعت الشارع في المكان الصحيح خدمة للإرادة الشعبية.
3 ـ عجز الحوار عن محاصرة الفريق الوطني وانقلب إلى حصار الفريق الآخر وإحراجه بعد أن فرض عليه وفي شكل واقعي جدول أعمال من بند واحد مضمونه تشكيل السلطة بالعودة إلى الشعب عبر قانون انتخاب يضمن التمثيل الصحيح أي بقانون نسبي ولبنان دائرة انتخابية واحدة.
4 ـ فشل رؤساء الطوائف في تشكيل رافعة للخطة وكان لنائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الذي اعتذر عن عدم الحضور أثرا في منع التئام القمة ما سبب بتحولها إلى مجلس أحادي الاتجاه اعتاد اللبنانيون على خطابه منذ سنة تقريباً.
5 ـ عجز مجلس الأمن من تقديم الدعم اللازم للخطة لم يرتق الموقف فيه إلى مستوى قرار ولم يرتفع سقف الضغط الذي أحدثه بيانه إلى مستوى القرار 1559 كما لم يغير الحال ما جاء في بيان أميركا السعودية.
وبالنتيجة يمكن القول إن مناورة انتخاب رئيس من حواضر الجيب الأميركي السعودي فشلت حتى الآن في بلوغ أهدافها، فشل فرضه واقع داخلي لبناني ودولي خارجي تمثل الأول بوعي وشجاعة سياسية وإعلامية مارستها القوى الوطنية السيادية الاستقلالية وعلى رأسها حزب الله والتيار الوطني الحر، وتشكل الثاني من متغيرات إقليمية فرضت نفسها دولياً وأنتجت بيئة لا تشبه البيئة الدولية التي أنتج فيها القرار 1559.
بالإضافة إلى ذلك نكاد نعتقد أن بعضاً من خطوط المناورة أو حبالها قد يستمر قائماً ليلتف حول عنق من تصور أن مناورته ستعوض فشله وتأتي له برئيس يضع لبنان بين يديه، خصوصاً أن الحراك الشعبي القائم اكتسب بعد جمعة التيار الوطني المشهودة مناعة تستعصي على التحريف والانحراف وفرضت حقيقة ثابتة بأن حل أزمة لبنان لم يحن بعد لأنه لن يقبل بأن يكون فوقياً يتجاوز إرادة الشعب اللبناني، ولأن فريق لبناني لم يتحرر بعد من القرار الخارجي… فحتى ذاك الحين على لبنان أن ينتظر ويمرر المرحلة بأقل ما يمكن من الخسائر… فهل يكون ذلك؟ أم…؟
أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية