المئوية الأولى لسفر برلك

الياس عشّي

السوريون المهاجرون الذين تتسابق وسائل الإعلام في نقل صورهم وهم يتهافتون لاجتياز الحدود، والوصول إلى أوروبا، اختاروا التيه، أو المعروف باللسان التركي باسم سفر برلك، وضاعوا بين مركب هنا وقطار هناك، مستبدلين حدائق الياسمين بأرصفة لا هويّة لها، أرصفة إنْ أعطت فلا تعطي أكثر من بطاقة لاجئ… أو بطاقة لموت بطيء.

وما أدراك ما سفر برلك؟ فلقد تداول العرب جيلاً بعد جيل، وبعد كلّ ترحيل جماعي يتعرّضون له، التعبير الشائع «سفر برلك»، من دون أن يعرفوا قصّة هذا التعبير، ولا ظروفه، ولا المسؤولين عنه، والمتضرّرين منه، ولا حجم الكارثة التي تركها هذا «السفر البرلك» وراءه.

المصادر التي عدت إليها كثيرة، ولكنني أكتفي بمصدر واحد تُجمع الأكثرية على صدقيته، وهذا المصدر يؤكّد «أنها قصة أهالي المدينة المنوّرة المروّعة مع جريمة سفر برلك كارثةِ التهجير الجماعي والقسري، التي طبّقتها الدولة العثمانية في حق الآلاف من الرجال والنساء والأطفال، لتخلف، خلال خمسة أعوام، مدينة منكوبة يسكنها 2000 من العسكر الأتراك وبضعة عشرات من النساء والأطفال ممّن حالفهم الحظ ونجوا من ذلك الترحيل الجماعي».

حدث ذلك، كما يقول المصدر، قبل مئة عام، وتحديداً في عام 1915، إثر قرار متّخذ من الآستانة، فدخل الجنود الأتراك المدينة المنوّرة ببنادقهم، وطرابيشهم الحمر. لم يحترموا طبيعة المدينة، ولا رموزها الدينية، ولا مسالمة الأهلين فيها، فعاثوا فساداً، لتبدأ رحلة العذاب، رحلة «سفر برلك» الكارثية.

هذه صفحة سوداء واحدة من ألوف الصفحات السود التي تركها وراءهم العثمانيون الأتراك بعد احتلالهم العالم العربي أربعة قرون بالتمام والكمال. والغريب في الأمر أنّ الأمم تعود إلى تاريخها القديم لتباهي بصفحاتها البيض، عدا تركيا أردوغان التي يحلو لها استنساخ ذاكرتها السيئة الذكر، بإعادة المشهد بأسلوب رخيص.

ويبدو أنّ الدولة التركية أرادت أن تحيي مئويّة «سفر برلك» في سورية، بتحدّ صارخ لمشاعر السوريين، ولحقوق الإنسان، ولقرارات الأمم المتحدة، ففتحت حدودها مع سورية في اتجاهين:

ـ اتجاه لدخول الإرهابيين إليها وقد أتوا من كلّ مكان.

ـ واتجاه معاكس لخروج السوريين من بلدهم، واستقبالهم على أراضيها، وترحيلهم، من ثَمّ، في طوابير يندى لها الجبين إلى أوروبا… ومنها إلى المعسكرات، والخيام، والعبودية.

سفر برلك أخرى نراها في القرن الواحد والعشرين على أرض سورية العظيمة، في عالم فقد نكهة الضوء، وصار أقرب إلى الحيونة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى