مسيرة أبو عماد جمال الدين ستبقى شعلة تنير الدرب
معن بشوّر
يوم كانت البيوت المفتوحة للاجتماعات الحزبية الممنوعة في أواسط الستينيات قليلة جداً، كان بيت المناضل الراحل محمد جمال الدين أبو عماد ، في شارع الحمرا في محلة الرويس، مفتوحاً بكلّ رحابة البقاعي الدافئة، والضيافة العربية الأصيلة، وقد اجتمعت في صاحبه صلابة وطيبة، إيمان وعزيمة، والتزام صقلته المعاناة وعزّزه الإخلاص وعمّقه الصدق.
كنا نفاخر، أنا وزملائي في الجامعة الأميركية المجاورة لشارع الحمرا الشهير في رأس بيروت، كلما كنا نذهب إلى شارع الحمرا الآخر القابع في ركن ناءٍ من ضاحية الشموخ، ونشعر بنوع من التوازن النفسي الداخلي بين محيط «برجوازي» كنا نعيش فيه، وآخر «بروليتاري» تشدنا إليه حرارة النضال بين الكادحين، وندرك بالملموس أنّ العاصمة ليست فقط تلك الأحياء المرفهة التي تجذب الأغنياء والسائحين، بل هي أيضاً ما كنا نسميه «حزام البؤس» الذي يجهد أهله أنفسهم ليحصلوا على لقمة العيش…
كان أبو عماد يومها موظفاً في شركة «طيران الشرق الأوسط» وقد هاله نزول الكوماندوس «الإسرائيلي» ذات ليلة من أواخر عام 1968 إلى ساحة المطار ليدمِّر أسطول لبنان الجوي التجاري، رغم أنه لم يكن في لبنان يومها لا مقاومة فلسطينية أو لبنانية ليتذرع بها العدو، وأدرك المناضل العمالي يومها أنّ النضال الاجتماعي، وكان من أبرز رواده، لا ينفصل عن النضال الوطني، كما أنّ ازدهار لبنان، و «الميدل إيست» من أبرز عناوينه، لا يُصان ولا يُحمى إلاّ إذا تحصَّن بمدافعين أشداء من أبنائه…
سار «أبو عماد» على خطي النضال معاً، فكان للاجتماعات التي انعقدت في منزله عنوانان أولهما تصعيد النضال الاجتماعي لانتزاع حقوق العمال الذين كان بعضهم يلتقي في بيته، ولا سيّما عمال الغزل والنسيج في معامل غندور وجبر وغيرهما، وثانيهما الانخراط في النضال الوطني والقومي لمواجهة المشروع الصهيوني الذي كان يرى في لبنان نقيضاً وجودياً له، وفي الأمّة العربية مدى واسعاً لمطامعه ومخططاته…
كانت خبرته في العمل في مطار بيروت وجيرته لحرمه الممتد، سبيلنا يومها إلى التغلغل في ردهاته «لاستقبال» أول مبعوث أميركي إلى لبنان بعد حرب حزيران 1967 جورج بول، فاجتمع يومها 17 تموز 1968 المئات من رفاق أبو عماد البعثيين في بهو المطار وشرفته المطلة على الطائرات القادمة والذاهبة، ليفاجئوا أمن المطار ومستقبلي المبعوث الأميركي بزجاجات المشروبات الغازية والبيض والبندورة تنهال عليه، وقد أدّت إحداها إلى جرح ذلك المبعوث، فكانت المجابهة الشعبية العربية الأولى مع أحد مبعوثي واشنطن الآتين إلى بلادنا «لاستثمار» نتائج الهزيمة العربية في تلك الحرب.
حمل المحتشدون في شرفة المطار يافطات تندِّد بالزيارة، وقد نجح أبو عماد ورفاقه في إدخالها إلى المكان وسط ذهول رجال الأمن وإعجابهم بهذه المبادرة التي أدّت «رسالتها» في دقائق ثم اختفى شبابها لتسعى السلطات إلى ملاحقتهم واعتقال بعض من تعرفوا إليهم ممن نالوا من التعذيب ما نالوه كالمحامي خليل بركات، والمناضل سعيد شعيب، والكاتب رغيد الصلح، الذي لم يحُل انتماؤه إلى عائلة رجل الاستقلال رياض الصلح دون دخوله السجن أيضاً.
لم تصل الاعتقالات إلى «أبو عماد» يومها، رغم دوره الهام في الإعداد لتلك المظاهرة، لكنّ «أبو عماد جمال الدين» رأى في العدوان الصهيوني على مطار بيروت بعد أشهر 28/12/1968 ، انتقاماً صهيونياً للحليف الأميركي من الإهانة التي تلقاها في مطار بيروت، وهي الإهانة التي كانت سبباً في أن يرفض هنري كيسنجر فيما بعد عام 1973 أن يزور لبنان عبر مطار بيروت، بل جاء سراً إلى مطار رياق العسكري في البقاع ليلتقي رئيس الجمهورية والحكومة الراحلين سليمان فرنجية وتقي الدين الصلح، ويبلغهما الإنذار الأميركي الشهير الذي بدأت ترجمته في الحرب المجنونة في لبنان إثر مجزرة عين الرمانة في 13/4/1975، التي كان ضحاياها اللبنانيون والفلسطينيون هم أيضاً من رفاق أبي عماد جمال الدين.
عناد أبي عماد البعلبكي المترافق مع أصالته الوطنية المتدفقة، وروحه القومية الملتهبة، جعله يواصل نضاله على الجبهتين معاً، جبهة المقاومة الاجتماعية والاقتصادية، ولا سيّما في انتفاضة عمال غندور ومزارعي التبغ وغيرهما من الانتفاضات الاجتماعية التي شكّلت مرحلة نهوض للحركة الوطنية والشعبية اللبنانية، وجبهة المقاومة الوطنية والقومية المسلحة المتحلقة آنذاك حول العمل الفدائي الفلسطيني، والتي شكّلت رافعة للعمل القومي والتي قدمت في بداية السبعينيات أوائل المقاومين في الجنوب من رفاق أبي عماد، كحسين علي قاسم صالح شبلي شهيد كفر شوبا 3/9/1969، وأمين سعد الأخضر العربي في شبعا 3/12/1969، وواصف شرارة في بنت جبيل تشرين الأول 1969 ، وعلي شرف الدين وولديه عبد الله وفلاح في الطيبة 1/1/1975، وعبد الأمير حلاوي «أبو علي» في كفر كلا 26/11/1975، والعديد من شهداء الأحزاب والقوى الوطنية والقومية…
في الحرب العبثية، وخلال الغزو الصهيوني، كان أبو عماد ورفاقه وإخوانه محمود ويوسف ومصطفى وأحمد جمال الدين ومعهم المناضل الجليل الراحل الحاج محمود زين الدين وغيرهم، حرّاساً للقضية الوطنية، كما كانوا مدافعين عن العاصمة بيروت في خطوط دفاعها الأولى في الليلكي والكفاءات والمطار، وكانوا بشكل خاص مدافعين عن الوحدة الوطنية بكلّ معانيها، ويذكر أهل المريجة بشكل خاص كيف كان أبو عماد وإخوانه في اللجان والروابط الشعبية سدّاً في وجه كلّ محاولات العبث بحياتهم عبر الخطف والتهديد وتهجيرهم من بيوتهم…
لم يتصدر اسم أبو عماد جمال الدين عناوين الصحف، ولا شاشات التلفزة، بل كان، ككثيرين، جندياً مجهولاً في خدمة وطنه وأمّته، حتى إذا أقعده المرض، وداهمه عجز الشيخوخة في السنوات الأخيرة، بقيت سيرته العطرة تفوح بين أولاده وعائلته ورفاقه وأهل منطقته في الضاحية، ومسقط رأسه مقنة البقاعية التي قدّمت العديد من الشهداء من مناضلين شيوعيين وقوميين وإسلاميين، لا سيّما خلال حرب تموز 2006.
رحل أبو عماد جمال الدين بعد عمر أفناه في العطاء النضالي، لكنّ سيرته ستبقى شعلة تنير الدرب، ومشعلاً يضيء الطريق…
المنسّق العام لتجمّع اللجان والروابط الشعبية