الفعل الروسي وجعجعة الغرب الخاوية
د. تركي صقر
لم تخف موسكو يوماً دعمها السياسي والعسكري لدمشق في حربها ضد الإرهاب، ومارست دعمها السياسي علناً للدولة السورية، واستخدمت الفيتو في مجلس الأمن الدولي أكثر من ثلاث مرات للحيلولة دون تكرار السيناريو الليبي في سورية، وما من مرة أشاعوا فيها أن روسيا تخلت عن حليفها السوري حتى كانت القيادة الروسية، وعلى رأسها الرئيس فلاديمير بوتين، تنبري إلى الرد مؤكدة ثبات الموقف الروسي إلى جانب القيادة السورية، وما من مرة احتجوا فيها على تزويد الجيش العربي السوري بالأسلحة إلا وكانت القيادة الروسية ترد بحزم أنها مستمرة في ذلك ولن تتوقف ضمن القوانين الدولية، حيث لا يوجد أي قرار أممي يحظر بيع الأسلحة لسورية.
إلا أن الإدارة الأميركية ما زالت تلعب لعبة مزدوجة تجاه الأزمة في سورية، فهي تظهر نفسها على أنها المحارب الأوحد لتنظيم «داعش» وتقود تحالفاً دولياً لضربه جواً، وفي الوقت نفسه تعمل على إطالة أمد الحرب في سورية بمواصلة دعم المجموعات الإرهابية ومنها «داعش» و«النصرة» وأشباههما تحت عناوين مزيفة باسم «المعارضة المعتدلة»، وتعطيل قرارات مجلس الأمن الدولي القاضية بإلزام الدول الداعمة للإرهاب بوقف التمويل والدعم وإغلاق الحدود في وجه تدفق الإرهابيين إلى سورية، وهذه اللعبة أضحت مكشوفة بعدما تبين أن ضربات التحالف الجوية ضد «داعش» خلبية ولا تتعدى الاستعراض الإعلامي.
ولم تكتف واشنطن بهذه اللعبة المزدوجة إذ حاولت أخيراً خداع موسكو بتفويضها بالملف السوري، وعندما باشرت الأخيرة بطرح مبادرة من شقين سياسي وميداني عمدت على الفور إلى الالتفاف عليهما وتعطيلهما، فقد طرح الرئيس بوتين أوراق تحالف دولي إقليمي لمواجهة تنظيم «داعش»، على أن يجمع التحالف روسيا إلى الولايات المتحدة وبقية أعضاء مجلس الأمن الدولي الدائمين، أما على المستوى الإقليمي فسيجمع سورية إلى جميع دول المنطقة بما فيها «السعودية وتركيا والأردن». ويمثل التحالف المعروض ذروة الجهود الأميركية الروسية التي أطلقتها زيارة كيري إلى مدينة سوتشي الروسية، ولقاؤه الرئيس بوتين في شهر أيار الماضي، ما يجعل الموقف الأميركي ضبابياً وغير مفهوم… هل تريد تدخل روسيا أم لا؟ وبأي شكل وفي أي إطار؟
وقامت واشنطن بعد ذلك بتحريض حلفائها وعلى رأسهم السعودية بمهاجمة اقتراح الرئيس بوتين بغية إفشاله، فالموقف السعودي عاد وتراجع عن موافقة ولي ولي العهد محمد بن سلمان أثناء لقائه مع الرئيس الروسي حول قيام تحالف إقليمي ضد الإرهاب، ففي رده على سؤال حول قيام تحالف ضد الإرهاب يشمل السعودية وتركيا والعراق والنظام السوري، قال عادل الجبير بعد لقائه وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف: «هذا الموضوع لم يطرح والرئيس بوتين يطالب بمواجهة الإرهاب، ونحن ندعمه في ذلك، والتحالف ضد الإرهاب قائم ضد «داعش»، والمملكة جزء منه»، في إشارة إلى التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة.
على الصعيد السياسي، كانت المناورة الأميركية سافرة ومفضوحة، أكثر ففي وقت أبدت الإدارة الأميركية رغبتها أن تتولى موسكو طرح مبادرتها لحل الأزمة في سورية، عقب اجتماع كيري ولافروف في الدوحة، وبعد أن أرسلت مبعوثها الخاص بسورية دونالد براتني إلى موسكو للاجتماع ببوغدانوف، خرج الناطق الرسمي للخارجية الأميركية بتصريح ناري أعاد فيه الأسطوانة المشروخة ذاتها حول موضوع الرئاسة السورية، وحرض أدواته لتكرار الجعجعة نفسها، وليس هناك من هدف سوى تعطيل الحراك الروسي الإيراني الذي برز بزخم قوي بعد الاتفاق على البرنامج النووي الإيراني.
إزاء ذلك كان لا بد من أن ترد موسكو على هذه الألاعيب الأميركية بموقف علني وحاسم حول مواصلة الدعم العسكري لسورية ورفع البطاقة الحمراء في وجه واشنطن وأدواتها بأنه ممنوع إسقاط الدولة السورية وقيادتها تحت أي ظرف من الظروف حتى لو اقتضى الأمر مشاركة روسية مباشرة وميدانية في قتال «داعش» في المرحلة اللاحقة، حيث أشار الرئيس بوتين إلى أنه من السابق لأوانه الحديث عن ذلك الآن، ولكن هذه الخيارات مطروحة على الطاولة وقيد الدرس من قبل القيادة الروسية.
لقد ربحت موسكو الجولة الحاسمة وعنوانها، أن الحرب على الإرهاب في سورية لن تتواصل وفقاً للروزنامة الأميركية، فروسيا موجودة في قلب المعركة، وإنْ رغبت واشنطن الاستمرار فلا طريق سوى التنسيق، وبدايته اعتراف بالحاجة إلى التنسيق مع الجيش السوري، وإنْ لم ترغب فموسكو وحلفاؤها جاهزون لمسؤولية الحرب على الجبهة السورية والعراقية، وهكذا لم تنفع هستيريا الغرب ولا ثرثرة الخارجية الأميركية ولا هيجان أدواتها في المنطقة في ثني موسكو عن تنفيذ قرارها بدعم سورية عسكرياً، وأكثر من ذلك فقد وضع الحزم الروسي هؤلاء أمام خيارين لا ثالث لهما إما الصدام وإما التنسيق… وبالطبع ليست إدارة أوباما في وارد الصدام العسكري كما هو معروف، فيكون التنسيق مع موسكو الممر الإجباري الوحيد وطريقه المفتوح هو الاستدارة إلى مبادرة الرئيس بوتين بقيام جبهة عريضة تضم دول المنطقة وفي المقدمة سورية للقضاء على الخطر الإرهابي المتفاقم.
خلاصة القول إن الحزم الروسي العسكري المعتمد على الصمود البطولي والصبر الاستراتيجي الأسطوري للشعب السوري وما يقدمه جيشه الباسل أنتج تحولاً كبيراً في المشهد الدولي والإقليمي ومؤشراته توالي التصريحات الأوروبية من وزيري خارجية كلّ من إسبانيا والنمسا وبعدهما وزير خارجية بريطانيا بالإقرار بدور الرئيس الأسد كشريك في صنع الاستقرار، وبغض النظر عن الألفاظ والصياغات المدروسة والحذرة لمراعاة شروط حفظ ماء الوجه من جهة، ومراعاة أصحاب المواقف المتشنجة من جهة أخرى، فإن هذه الانعطافة بتوقيتها المتسارع تأتي منسجمة ومتماهية مع وجهة الحراك الروسي القاضية بالتسليم على أن القيادة السورية شريكاً محورياً في محاربة الإرهاب وصناعة الاستقرار في المنطقة.
tu.saqr gmail.com