سعد حلاوة… «المجنون» الذي دفع حياته ثمناً لرفض التطبيع مع الصهاينة
محمود القيعي
في مثل تلك الأيام التي يُعاد فيها فتح السفارة «الإسرائيلية» في القاهرة، نتذكّر سعد إدريس حلاوة، وحقّ لنا أن نتذكّره، ونفخر به، ونقدّره حقّ قدره!
نتذكّره لأن اسمه ارتبط ـ ولا يزال على رغم التعتيم الإعلامي ـ بأوّل من رفض التطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب. ودفع حياته ثمناً لذلك الرفض راضياً مرضيّاً، وله في هذا قصة، وأيّ قصة؟
في 26 شباط 1980، كان المصريون على موعد مع استقبال السفير «الإسرائيلي» إلياهو بن اليسار، كأول سفير «إسرائيلي» بعد توقيع معاهدة «كامب ديفيد» سيئة الذكر. لكنّ سعد حلاوة كان له رأي آخر. إذ احتجز اثنين من موظفي الوحدة المحلية في محافظة القليوبية، وهدّد بقتلهما ما لم يُطرَد السفير «الإسرائيلي».
في الوقت الذي فعل سعد ذلك الموقف ببراءة يشهد له بها التعامل الراقي مع من احتجزهم، إلا أنّ الأمن المصري، وعلى رأسه وزير الداخلية الشهير النبوي إسماعيل، تعامل معه بدموية ليست غريبة على الأجهزة الأمنية. فقُتل بوساطة قنّاص، وكيلت له الاتهامات، وسلقه إعلاميو السلطة بألسنة حِداد، وقيل عنه «مجنون»!
ولكن، إذا صدق عنه هذا الوصف، فإنه ليصدق عليه بالمعنى الذي ذكره الأديب الكبير عبد الرحمن مُنيف، عندما قال:
«لا بدّ من وجود الأطفال والمجانين، لأن هؤلاء لا يعرفون الخوف، ولا تعني لهم شيئاً الحسابات التي تقيّد الكبار والعقلاء، ويمكن لمثل هؤلاء الناس أن يعلّموا الآخرين الكثير: الشجاعة والتحدّي، والنظر في عيون الجلادين مواجهة».
يا إلهي! كيف تقابل كل تلك العفوية والبراءة والوطنية، بكل هذا الإجرام والتعسف والدموية؟!
من أشهر مَن كتب عن سعد حلاوة، الشاعر الكبير نزار قباني، في مقال له بعنوان: «صديقي المجنون سعد حلاوة»، استهله بقوله: «مجنون واحد فقط خرج من هذه الأمة العربية كبيرة العقل متنحسة الجلد باردة الدم، العاطلة عن العمل… فاستحق العلامة الكاملة. في حين أخذنا كلّنا صفراً… مجنون واحد تفوّق علينا جميعاً واستحق مرتبة الشرف في ممارسة الثورة التطبيقية، في حين بقينا نحن في نطاق التجريد والتنظير. هذا المجنون العظيم اسمه سعد إدريس حلاوة. وعلامته الفارقة مجنون. بحسب آخر تخطيط دماغ أجري له في مستشفى أنور السادات للأمراض العصبية. أما بالنسبة إلينا؟ نحن أهل الجنون، فإن سعد إدريس حلاوة كان مصرياً مثقفاً، ومتوازناً، وهادئ الطباع، نال شهادة البكالوريوس في الهندسة الزراعية وربط قدره بتراب مصر, وبالنسبة إلى تاريخ المقاومة المصرية، فإن سعد إدريس حلاوة هو أول مجنون عربي لم يحتمل رأسه رؤية السفير الإسرائيلي يركب عربة تجرّها الخيول إلى قصر عابدين في القاهرة، ويقدّم أوراق اعتماده إلى رئيس جمهورية مصر. فأخذ مدفعاً رشاشاً واتجه إلى قاعة المجلس البلدي في قرية أجهور في محافظة القليوبية، واحتجز سبع رهائن مطالباً من خلال مكبّر الصوت الذي حمله معه، بطرد السفير الإسرائيلي لقاء الإفراج عن رهائنه».
وتابع نزار: «هذا هو مجنون مصر أو مجنون الورد. الذي تناقلت وكالات الأنباء قصته باهتمام كبير، في حين قرأ العرب قصته كما يقرأون قبل النوم قصة مجنون ليلى. وأنا شخصياً ـ وأنا أيضاً ـ أحبّ المجانين وأعتبر نفسي عضواً طبيعياً في حركتهم. وأعتبرهم أشجع وأصدق حزب سياسي يمكن أن ينضم إليه الإنسان العربي. سعد حلاوة كان الأصدق والأصفى والأنقى، فهو لم يقتنع بأسلوب المقاومة العربية وبيانات جبهة الصمود والتحدّي. فقرّر أن يتصدّى على طريقته الخاصة ويخترع مقاومته. إذا كان سعد حلاوة مجنوناً فيجب أن نستحي من عقولنا. وإذا كان متخلّفاً عقلياً فيجب أن نشك في ذكائنا. هو قاوم افتتاح السفارة الإسرائيلية في القاهرة على طريقته الخاصة فقاتل وقُتل. في حين نحن لم نقاتل ولم نُقتَل. كل ما فعلناه أننا حملنا ميكروفناتنا. وبدأنا البثّ المباشر. أذعنا أسطوانة أخي جاوز الظالمون المدى وبكينا. واستبكينا وفرطنا كلّ دواوين شعراء الأرض المحتلة. ورقة ورقة. هدّدنا برفع مليون علم فلسطيني لقاء رفع علم إسرائيلي واحد. أخرجنا من المخازن لافتات نحتفظ بها من أيام وعد بلفور. ومشينا في مسيرات اشترك فيها كل الأموات الذين عاصروا الحاج أمين الحسيني وفوزي القاوقجي. وأخرجنا من أرشيف الإذاعة كل المونولوجات والطقاطيق والاسكتشات السياسية التي نخزّنها في مؤونة البيت وكل الخطابات الحماسية أبتداء من خطابات ميرايور وروبسير والحجاج بن يوسف الثقافي. إلى خطابات أدولف هتلر من إذاعة برلين. وعندما دخل السفير الإسرائيلي إلياهو بن اليسار إلى قاعة العرش وقدّم أوراق اعتماده سفيراً فوق العادة ومطلق الصلاحية إلى الملك محمد أنور بن فاروق بن فؤاد بن السادات، توقفنا عن إذاعة القرآن الكريم، ونصبنا الصلوات، وبدأنا نستقبل المعزّين».
وتابع نزار: «سعد إدريس حلاوة هو مجنون مصر الجميل الذي كان أجمل منّا جميعاً، وأجمل ما به أنه أطلق الرصاص على العقل العربي الذي يقف في بلكونة اللامبالاة في يوم 26 شباط 1980 ويتفرّج على موكب السفير. ولكن العقل العربى لا يصاب. فهو عقل مصفّح ضدّ الرصاص وضدّ المعارضة وضدّ الاحتجاج وضد النابالم وضدّ القنابل المسيّلة للدموع. العقل العربي عقل متفرّج واستعراضي وكرنفالي. لذلك، كان لا بدّ من ولادة مجنون يطلق الرصاص على اللاعبين والمتفرّجين جميعاً في مسرح السياسة العربية. ومن هنا أهمية سعد حلاوة، فقد أرسله القدر ليقول جملة واحدة فقط ويموت بعدها: هذه ليست مصر. هذه ليست مصر. والقصة انتهت كما تنتهي قصص كلّ المجانين الذين يفكّرون أكثر من اللازم ويعذّبهم ضميرهم أكثر من اللازم. أطلقوا النار على مجنون الورد حتى لا ينتقل جنونه إلى الآخرين. فالجنون يتكلم لغة غير لغة النظام، لذلك يقتله النظام».
وأضاف نزار في مقاله واصفاً سعد حلاوة:
«جمجمة مصرية كانت بحجم الكبرياء وحجم الكرة الأرضية. إنه خنجر سليمان الحلبي المسافر في رئتي الجنرال كليبر.
هو كلام مصر الممنوعة من الكلام
وصحافة مصر التي لا تصدر
وكتّاب مصر الذين لا يكتبون
وطلاب مصر الذين لا يتظاهرون
ودموع مصر الممنوعة من الانحدار
و أحزانها الممنوعة من الانفجار».