ثقافة تعطيل العقل ٢/٢
نظام مارديني
ما يجري في المشهد الثقافي راهناً يثير الكثير من الجدل البيزنطي، والكثير من الأسئلة، فالكل مختلف في النظر إلى علاقة الثقافة بالسياسة، وإلى قدرة الخطاب الثقافي على ملامسة أسئلتنا الفاجعة، وإلى التعبير عن لحظة وعي حقيقية مع الحداثة والتنوير والإصلاح، في زحمة التنافس على الوهم!
هذه الأسئلة تكشف عن حجم عري الحالة الثقافية، وعن الحاجة إلى مكاشفة جريئة ناقدة ونافذة لهوية المثقف المعطوبة، بخاصة بعد ما وصل إليه المجتمع «السوراقي» في سنيّه الأخيرة من محاولات لتجريف في هويته الثقافية.
ما نراه اليوم وسط هذه العتمة يضعنا أمام رعب السؤال الثقافي، إذ كيف للمثقف أن يكون فاعلاً وسط عطالة عقلية؟ وكيف له أن يضع خطابه بمستوى تحديات المرحلة؟ وكيف سيجد هذا المثقف المُستلب دوره وسط أدوار مجاورة ومضللة وضاغطة؟
طفا اليوم سؤال الهوية الثقافية، وسؤال المصير الوجوديّ، وسؤال القضية القومية… إلخ. ولكن يبقى السؤال الأعنف هو سؤال الثقافة والمثقف داخل المعادلات الكبرى التي كان يشكل، فيها، دائماً موقعاً مهماً بل ومركزياً. فما هي هوية المثقف العربيّ في هذا السياق الحضاري الأكثر تعقيداً وتشعباً؟ ثم هل من هوية للمثقف العربيّ في ظلّ الانشطارات الحضارية، وفي ظلّ العولمة التي لا تتوقّف عن التهام الهويات لإحلال هوية مغايرة ومناقضة لكلّ الهويات القومية والثقافية؟
أمام استحقاقات لازمة، وأمام أسئلة جديدة، لا سيما في ما يتعلق بالتاريخ الذي فتح فمه شاغراً، وعادت إلينا أحداثه وهي مسكونة برعب التأويل والكراهية، فضلاً عن تضخم مظاهر العجز السياسي وتشوهات قيم الحرية والديمقراطية، والتي تضع الكثير من علامات الاستفهام، إذ إن هذا العجز ليس بريئاً، ولم يأتِ من فراغ، وأن من أكثر مبرراته حدوثاً كانت البيئة الثقافية المشوهة، ورعب السلطة القائمة التي ساعدت في تفكيك كل البنى الثقافية، وإخضاع المؤسسة الثقافية لسلطة الرقيب، والتي ساهمت في صناعة المنفى الثقافي، والرعب السياسي، والخندق الانعزالي، وتشوه الهوية القومية.
فمثلما يوجد في التاريخ الكثير من الأوهام، فإن الثقافة بصفتها مدونات ونصوصاً تحتمل الكثير من الأوهام أيضاً، وربما الكثير من القراءات المضللة، وحتى الوثائق الملفّقة، إذ كانت تسعى السلطات القائمة إلى صناعة أوهام ثقافية تعبّر عن أفكارها، وعن عنفها وهويتها وطبيعة المقبول والمباح من الكلام.
الأسئلة هنا: كيف تمكن مقاربة الحالة الثقافية بعد كل ما جرى ويجري؟ وهل تمكن استعادة الوظيفة الثقافية لتكون ساندة للسياسة والأمن في الهلال السوري الخصيب؟
بقدر ما تكون هذه الأسئلة ضرورية، فإنها تستدعي معها الوعي بخطورة معرفة المتغيرات، لا سيما مع صعود الجماعات الإثنية والطائفية الانعزالية، ومع تحول الصراع السياسي إلى صراع هويات صغرى وخنادق.
من يقرأ الصفحات الثقافية التي تغطي الحراك القائم في العالم العربي بخاصة في سورية والعراق سيكتشف العجيب من المباح، والغريب من المسكوت عنه، وما بين هذين النقيضين تتبدى أوهام اللغة، ولكن من أكثر تجليات هذه الأوهام الشِفرة الانعزالية، الطائفية منها والإثنية العرقية ، ولا وعي الكراهية الذي تحول إلى موقف يدخل في الاستعمال الثقافي والسياسي، وكأن صورة هوية المثقف لا تتمركز ولا تتضح ملامحها إلاّ عبر هذا التجنيس الانعزالي، أو تحميل التاريخ والصراعات الغاطسة في العقل حمولات انعزالية، وتسويق الأوهام من دون أية مراجعة. وهذا بطبيعة الحال ظاهرة خطرة ومريبة، لأنه يعني تعطيل العقل الثقافي وتجريفه، وتعطيل السؤال النقدي.
هذه الأوهام تحولت إلى خندق لاحتواء جماعات معينة، ولترسيم حدود تأخذ في حسابها التجنيس الهوياتي للبعض، وإخضاعه بالتالي لمواقف يختلط فيها السياسي والديني والطائفي والعرقي والثقافوي العنصري… لكن الأخطر في كل هذا الأمر أن يتلبس البعض قناع «المثقف الانعزالي» والذي نشاهده هذه الأيام كثيراً في قنواتنا الفضائية وفي الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي، وهذا «التلبّس» يستدعي معه استحضار جهاز من المصطلحات والمفاهيم والأحكام التي تعزل هذا، وتضع هذا في خانة المارق، مثلما تضع ذاك في زاوية الخارج عن الجماعة، الطائفية والعرقية.
هذه الصور تعبير عن الهشاشة الثقافية، وعن «موت العقل الثقافي» وظهور غرائبي لصانعي «العقل الانعزالي» و»المثقف الانعزالي» الذي اكتشف نفسه فجأة بأنه سليل الفرسان القدامى الذين أكلت أوهامهم الحروب التي تشبههم في ضلالتها، وهو ما أشار إليه الباحث زياد منى في معرض حديثه عن بعض المثقفين العرب اليساريين الذين وضعوا ماركس ولينين وتروتسكي وغيفارا إلى يمينهم، كيف استحالوا، من دون مقدمات، خدماً ومنظرين لرأس المال المتوحش، رأسمال النيوليبرالية التي نشأت في تشيلي الطاغية بينوشيه وبريطانيا مارغريت ثاتشر! هم لا يختلفون عن كبير السحرة الذي ادُّعي بأنه نبي الفكر العِلماني، فإذ به يكشف عن حقيقته عندما عرَّف نفسه أخيراً، بعدما بلغ من العمر أرذله، بأنه عثماني سنّي! وهو يقصد بالطبع صادق جلال العظم ، راجع صحيفة «الأخبار» 1/9/2015 . وهناك أمثلة سابقة لهذا الانحدار الوطني أشار إليها الباحث الدكتور أسعد أبو خليل في قراءته القيّمة في المقال الموسوم بـ «تل الزعتر: حتى لا ننسى ولا نغفر» الذي نشر في جريدة «الأخبار» 22/8/2015 ، إذ يشير أبو خليل إلى قيام الثنائي جورج حاوي ومحسن إبراهيم بدورة كاملة من الانقلاب على مشروع كانا في صلب قيادته، وبالنيّابة عن جماهير الحركة الوطنيّة من خلال تدعيم السرديّة «الكتائبيّة ــ القواتيّة» للحرب الأهلية اللبنانية.
لعلّ أهمّ ما يترتّب على سؤال الهوية، هو مسألة الخاصية الثقافية للجماعة. لذلك فإنّ الهوية العربية وإشكالاتها المتفجرة، التي ظلت محطّ نقاش طويل داخل المجتمعات التي تعيش تنوعاً خلاقاً، مذهبياً وإثنياً، منذ زمن بعيد، من أهمّ الإشكاليات التي لا يتوقّف المثقّف «السوراقي» عن مناقشتها، كما أنّه بمجرّد الانخراط في مناقشة هذه الإشكالية سرعان ما تطفو إشكالية المثقف كقضية، بل كإحدى أكبر القضايا على الإطلاق. ومن هنا كانت الحلقة، أو بالأحرى الدائرة المغلقة التي تعيد إنتاج كل القضايا، علاقة المثقف بالجماعة، ودور النخب ووظيفتها، وهل النخب هي المحرّك الحقيقيّ لكلّ التحوّلات أو التغييرات الممكنة؟ وما هو دور المثقف والنخب ومساهمتهما في تخطّي معوقات وأعطاب المراحل التي مرّ منها الزمن العربيّ ولا يزال؟
إنّ هذا الدور الكيميائيّ الذي لا يمكن أن يكون المثقف بمعزل عنه في عملية انصهاره داخل بوتقة الهوية والتطوير، يدفع إلى البحث في طبيعة المثقف العربيّ وهويته في الراهن، لأنّ صدمة المجتمع «السوراقي» مع نفسه كانت وراء نشوء المثقف الحديث المرتبط بأدوات الخارج، وليس فخري كريم وبرهان غليون وميشيل كيلو وعزمي بشارة، إلا نماذج على سقوط المثقف في لجة الخيانة. ومن المفيد الاستفادة من الباحث زياد منى في مقالته الآنفة الذكر في الأخبار، إذ يقول: «من غير الممكن فصل عالم الثقافة في العراق ما بعد الاحتلال عن حقيقة أن وزيرها الذي عينته سلطات الاحتلال الأميركي عضو مكتب سياسي في الحزب الشيوعي العراقي! «المناضل» العتيد ضد الإمبريالية استحال إلى خادم لها»، من دون ترك مقعده الحزبي، ويمتلك من بعد الوقاحة للحديث في الثقافة.