لا مكان للمسرح في عصر ثقافة الاستهلاك!

رضاب فيصل

لا أحد يستطيع اليوم أن ينكر أن المسرح كفن ملتزم وتوعوي يطرح قضايا إشكالية في موضوعاته المتنوعة، ويسعى إلى الاقتراب من خبايا الروح والعقل، أصبح الحلقة الأضعف بين اهتمامات الإنسان العربي الذي أخذته الظروف الراهنة نحو اختيار أنماط فنية وثقافية ذات أبعاد ترفيهية فارغة من المحتوى الثقافي، لا لشيء إلاّ لأجل المتعة فحسب.

مع تطور شكل الحياة عاماً فآخر، على مر العصور والأزمنة، كان المسرح يتطور آخذاً في الاعتبار ما يحيط به من متغيرات معيشية ترتبط أولاً وأخيراً بالقرارات السياسية التي تلقي بآثارها على الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية. فحين نرصد مدى تراجع هذا النوع الفني في الوطن العربي، لا نلغي وجوده البتة، الأمر الذي لا يقبله عقل أو منطق، فثمة دوماً المحاولات والتجديدات والدراسات حوله، لكنا نشير إلى تنحّيه لمصلحة فنون وعادات أكثر اقتراناً بوقائع العصر الحالي.

يبقى الاهتمام بهذه المحاولات الجادة والملتزمة رهينة المتخصصين والمهتمين من أصحاب الخبرة وأهل الثقافة وقلة قليلة من المؤسسات الرسمية في بعض البلدان العربية، ما يجعلنا نقول إن المسرح أصبح فناً نخبويّاً يقتصر الاهتمام به على نخبة محدودة، في حين يلقى العزلة من قبل البقية الممثلة للنسبة الأكبر والأوسع من المجتمعات العربية. خاصةً أن الثقافة العامة التي تسود هذه المجتمعات باتت ثقافة شكلية تعتمد على المظاهر، وبسيطة لا يمكنها التعمق في الفنون الأصيلة والخوض في إشكالياتها المطروحة.

في نظرة عامة وسريعة، يمكن أن نتبين الأسباب التي تنأى بالمتلقي عن الاهتمام بالمسرح، وفي مقدمها انتشار الثقافة الاستهلاكية بمفرزاتها المتعددة، إذ أصبحت غالبية الفئات الاجتماعية بعيدة تماماً عن الذوق الراقي في الأدب والفن، تهتم برصد كل ما هو بسيط وتجاري يوفر لها المتعة بغض النظر عن المحتوى أو عن الفائدة. ويمكن التلفزيون أن يتصدر قائمة الاتهام في هذا المجال، بسبب برامجه الهادفة إلى الترويج الإعلامي والدعائي من دون الاكتراث بالقيمة الثقافية والفنية للبرامج المقدمة، التي تلقي الضوء على الفن التجاري ذي القيمة الاستهلاكية، كما لو أنه الصورة الأنصع لحقيقة ما نحن عليه، وهي كرسته بذلك فعلاً، إلى حدّ أن هذه النظرية أصبحت ويا للأسف حقيقة لا نستطيع التغاضي عنها.

يكاد التلفزيون يكون موجوداً في كل منزل، تصل برامجه إلى الجميع من دون عناء أو كلفة مادية، على عكس المسرح، ذاك الفن الذي يتطلب التنقل وتخصيص الوقت لأجله، كذلك تخصيص المال في كثير من الأحيان. ولا يتناسب ذلك مع الوضع العام للمواطن العربي الذي يسعى طيلة يومه من الصباح إلى المساء، لتأمين حياة أفضل، ولو بدرجات متفاوتة، له ولعائلته. فكيف لهذا المواطن المنهك أن يجد وقت فراغ يذهب فيه إلى المسرح.

هنا، نطرح مسألة أخرى تتجسد في طبيعة الدراما المسرحية، المختلفة كثيراً عن طبيعة ما يقدم على القنوات الفضائية من مسلسلات تلفزيونية تناسب التوجهات الراهنة، المائلة إلى البساطة في المعالجة والتمثيل، إذ لم يعد هناك من تقبل للمأساة ربما، في ظل ما نعيشه من قسوة وعنف على أرض الواقع.

أضف إلى ذلك غزو التكنولوجيا، إذ أصبح الإنترنت الملاذ الأول للكبار والصغار، يجدون فيها ما يريدونه من العمل والتسلية والتواصل الاجتماعي. حتى أنها أصبحت لدى كثر أهم من التلفزيون بحد ذاته، يمكنها أن تسيطر على كامل أوقاتهم، وأن تخسرهم حيواتهم الطبيعية إذا استخدمت بطريقة مفرطة تصل إلى درجة الإدمان.

إذن، لا يمكن للمسرح في عالمنا العربي المعاصر، أن ينمو في ظل ما يجري من حوادث ترمي إلى إبعاده عن الساحة الثقافية. وهي ليست بالطبع إلاّ نتيجة حتمية لمنهجية تتخذ من التجهيل وسيلة وغاية لضمان بقاء الوضع على حاله.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى