لماذا بري عدو الحراك؟ هل تبادر حركة أمل؟ 3
ناصر قنديل
– سيكون من السهل التعرّف إلى الدور الذي لعبته حركة أمل من جهة والذي لعبه الحلفاء القريبون والبعيدون من جهة مقابلة، في خلق الفرص المواتية لوضع المشروع الهادف للنيل من الاستقرار والعبث بالاستحقاق الرئاسي، هدفاً له هو شيطنة رمزية الرئيس نبيه بري والنيل من مهابته، ووضعه ووضع الشارع المؤيد له تحت ضغوط تسهم في خلق المناخات المواتية للحظات الحاسمة في الصراع على مستقبل الخطوة النهائية في رسم الملف الرئاسي، فحركة أمل التي تمثل شارعاً عريضاً في جنوب لبنان وبقاعه وعاصمته وضواحيها من ذوي الدخل المحدود والمتوسط، والتي أطلقها الإمام السيد موسى الصدر كحركة مقاومة لعبت دوراً تأسيسياً نشطاً في مقاومة الاحتلال، لم تفقد وزنها التمثيلي الواسع في ذات الطبقات الشعبية التي تشكل الفئات الأشدّ معاناة في توزيع عائد الثروة في النظام الطائفي، وما تحقق من مكاسب لهذه الشرائح لم يجعل من الحركة تنظيماً للنظام أو حامياً له، فمكانها الطبيعي المنطلق من ميثاقها ومن مصالح مكوناتها لا يزال على ضفة التغيير والانتقال بلبنان إلى دولة المواطنة واللاطائفية. لكن الحركة التي صار رئيسها رئيساً لمجلس النواب وفتحت أمام كوادرها آفاق الصعود في السلم الاجتماعي، فقدت الكثير من مصادر قوة الدفع اللازمة للعب الدور الذي يتناسب مع موقعها الطبيعي تكويناً وميثاقاً.
– في زمن تدار فيه الأحزاب الجماهيرية بالخطاب العلني لقائدها، يطغى على خطاب رئيس الحركة موقعه كمدير عام للنظام السياسي اللبناني وراع لتوازناته واستقراره، وحماية موقعه كوعاء للمقاومة وظهير لأمن سورية وموقعها في الصراع مع «إسرائيل»، وفي دولة يفتح فيها نظامها الفرص ويغلقها على أساس الولاءات الطائفية وتتصدّر «أمل» طائفتها، يستغرق أغلب كوادرها في المسؤوليات والأدوار التي تبوأوها في الإدارات الحكومية وما تفتحه من آفاق شخصية لنمط عيش وتغيّر في المحيط الاجتماعي والقدرة على التواصل مع هموم واهتمامات الشارع الذي تنتمي إليه الحركة وبه تستقوي. وفي المقابل تسبّب هذا كله بخمول التواصل النضالي لقيادة هموم التغيير الاجتماعي، فصارت الحركة محوراً لاستقطاب الشكاوى الخدماتية المناطقية والشخصية، لكنها بعيدة عن القضايا المعبّرة عن مقتضيات النضال الاجتماعي للشرائح والفئات النشطة والمرتبط نضالها بنقد النظام الاقتصادي وإصلاحه.
– كان ضمور العمل النقابي وتراجع مكانته في الأجسام الطلابية والعمالية واحداً من نتائج ما بعد الطائف مقارنة بالستينات والسبعينات من القرن الماضي، حيث كان الرئيس بري أحد أبرز رموز الحركة الطلابية في مطلع الستينات، وكان هذا الضمور من أسباب الفراغ الذي أفسح المجال لقيادة الحراك بجمعيات وشخصيات تأتي من المجهول، وخارج قواعد الديمقراطية التي يتسم بها العمل النقابي. ولا تستطيع حركة أمل القوة الأبرز في ساحة القوى الوطنية في بنية الدولة بعد الطائف والأقوى في شارع هذه القوى أن تتبرأ من المسؤولية عن هذا الضمور والتراجع.
– في الامتحانات التي تحدّد الموقع والاصطفاف الذي تختاره القوى لذاتها وفقاً لشبكة المصالح التي تمثلها، أثبتت «أمل» ورئيسها في المقدّمة الوفاء لانتمائها الأصلي كممثل للطبقات الشعبية، ولعلّ الامتحان الأبرز هو المعركة التي دارت ولم تنته فصولاً بعد، حول مسؤولية المصارف اللبنانية عن أداء مسؤولياتها الضريبية عن أرباحها، ولا يخفى على أساتذة الاقتصاد السياسي وخبراء علم الاجتماع أنّ العائد الرئيسي للثروة في لبنان يُعاد تدويره عبر النظام المصرفي الذي يشكل مصفاة المكاسب الصافية للطبقة التي تملك الحصانة اللازمة لجعلها بعيداً عن المطالبة والمحاسبة. وكان واضحاً ولا يزال أنّ المعركة التي خاضها الرئيس نبيه بري مع المصارف وترتبت عليها مواجهات علنية قاسية، عبّرت عن انتماء راسخ لمفهوم الدولة من جهة، وعن تمسّك بالمعايير الاجتماعية للاستقرار الاقتصادي والسياسي التي تأسّست عليها حركة أمل.
– لم يشكل اشتراك «أمل» في نظام المحاصصة عامل إشباع موضوعي لتطلعات من تمثلهم أو مصدر تعطيل لمكانتها في السعي لدولة المواطنة والمؤسسات، فكلّ حديث نظري عن استنفاد النظام الطائفي لعمره الافتراضي وتحوّله عبئاً على الطوائف، أو عن فشل نظام الطائف في توفير الانتقال إلى دولة عصرية، يبقى قاصراً ما لم يستند إلى كون المعادلة المشتركة بين الطائف والطائفية تتخطى تشابه الأحرف، فقد قامت على صناعة مركز دفع صاحب مصلحة للنظام من منطلق إنتاج طائفة تقاتل لتحميه باعتباره نظامها، وهذا ما كان عليه الحال قبل الطائف باللعبة المخادعة التي أوحت للمسيحيين أنهم أصحاب النظام، وأراد الطائف لتقاسم سني شيعي إيجاد مركز بديل لها، وشكل التوازن الطائفي الناتج من التقابل بين الحيويات اليقظة لكلّ الطوائف في زمن المحاصصة شعوراً عاماً بالغبن وعدم الرضا بدلاً من النجاح في توليد مركز حماية للنظام من موقع الرضا، وتحقق مع التوازن السلبي للطوائف في تعطيل النظام، توازن سلبي في اللا إشباع الطائفي، يعبّر عنه شعور مسيحي بعدم الرضا رئاسياً ونيابياً وشعور السنة بتقييد أيدي رئيس الحكومة وشعور الشيعة بهامشية دورهم قياساً بحجم تأثيرهم الإقليمي وكثرتهم العددية، ما يعني جعل لبنان عشية حرب أهلية. والإشباع الذي لم يتحقق لأيّ من الطوائف لن يتحقق لأيّ منها مهما جرّب البعض البحث عن كيفية الإطالة بعمر النظام الطائفي، لأنّ التوازن واليقظة حاضران. وهذا الإشباع المعنوي والمادي شرط مكون لبقاء النظام الطائفي، وكان الرهان على تحوّل «أمل» قوة بديلة لدور حزب الكتائب في السبعينات، كحارس خلفي للنظام الطائفي، لكن هذا لم يحدث، بسبب التكوين الاجتماعي الواضح البنية والمنطلقات كما قالت المعركة مع المصارف، وبسبب التشابك بين الوطني والاجتماعي وصلته بقضية المقاومة من جهة أخرى. وبسبب أنّ هذا الاستبدال لا يمكن أن يتمّ بإسقاط الآخرين والاستئثار بعائدات النظام، بل بمجرد نيل حصة منها، في اقتصاد مأزوم ونظام تجفّ موارده، وفوق كلّ ذلك ما تتيحه الكثرة العددية للمكون الطائفي من عدم القلق في أيّ اعتماد لمعايير خارج التقسيم الطائفي سياسياً وإدارياً واجتماعياً.
– حركة أمل المحاطة بحلفاء يعيش كلّ منهم مأزقاً يشبه مأزقها، مطالبة اليوم باسترداد دور تاريخي مفقود، هو دور حركة المحرومين، عندما كانت «أمل» التشكيل العسكري المقاوم الذي أراده الإمام الصدر وكانت العقيدة الدينية جزءاً من مصادر قوتها، بينما كانت حركة المحرومين حركة مدنية مؤمنة ولكن لا طائفية ولا دينية، بمعنى عدم حصرية مرجعيتها لدين أو مذهب بالمفهوم الروحي. وكانت هي الحركة السياسية التي قارب عبرها الإمام الصدر قضايا لبنان الوطنية والسياسية والإصلاحية والاجتماعية، وضمّت بين مؤسسيها مئة وتسعين من رجالات وقامات لبنان من كلّ الطوائف، ولم يعد مسموحاً لـ«أمل» تجاهل السعي لاستعادة صيغتها ومضمونها وهويتها.
– تدرك «أمل» أنّ حلفاءها الذين يشكل حزب الله أبرزهم، يعانون الأزمات مثلها، فالحزب الذي يقود المقاومة ويشكل القيمة المضافة في الحرب على الإرهاب، والقوة الإقليمية الضاربة عاجز عن الجمع بين مسؤوليته عن توفير شبكة الأمان اللازمة للمقاومة وبين الحفاظ على صورته النقية كقوة لا تقدّم التغطية للفساد والسياسات المسؤولة عن إفقار بيئته الحاضنة. وغالباً ما يفسّر جمهور الحزب وبعض كوادره هذا المأزق بتحميل الشريك حركة أمل هذه المسؤولية، والتيار الوطني الحرّ حليف الحليف الثابت في الشأن الإقليمي على خياراته مع المقاومة وسورية متقلب داخلياً بين هويته التغييرية وعصبية طائفية يريد الاستقواء بها ولو أصابت حلفاءه الشظايا، وفي طليعتهم الرئيس نبيه بري، والحلفاء الأبعد من القوى العلمانية يشعرون بالتهميش وأنهم قوة احتياط تجري الاستعانة بهم عند الملمات، وليسوا شركاء حيث يكون البحث الجدّي في الخيارات، وهذا يعيشه القوميون نسبياً ويعيشه الشيوعيون أكثر.
– حركة أمل مطالبة من موقع مكانتها في لبنان الوطن والدولة وموقع رئيسها في التشكيل المعقد لصناعة السياسة وإمساكه بأغلب خيوطه، أن تمتلك المبادرة اللازمة لاستعادة حيوية تحصن وترفع من المناعة، في وجه مشاريع الاستهداف، لكنها تقود نحو استرداد حيوية تقود الناس نحو طرح همومها وقضاياها وتقرأ عبر الفراغ المتروك في الساحة. المطلوب مبادرة جدية لا إعلامية ربما تبدأ من دعوة للأحزاب الوازنة والكبرى، الحليفة والقريبة للتشاور والحوار، وبرئاسة الرئيس نبيه بري كرئيس لحركة أمل هذه المرة، رديف مواز لطاولة الحوار النيابية، تناقش وتتقاسم الأدوار والمسؤوليات بين الفاعلين في الحوار والحراك معاً، وترسم الرؤى وتخفض منسوب التوتر والالتباسات وتزيل نقاط الضعف بين من يفترض أنهم حلفاء في خيار المقاومة والدولة المدنية وقانون الانتخاب على أساس النسبية، ونظام اقتصادي قائم على تشجيع قطاعات الإنتاج وينطلق من مفهوم دولة الرعاية، وهذا هو رباعي الركائز التي تختصر أي رؤية تغييرية لمستقبل لبنان.