أميركا من تصعيد عسكري إلى قبول بالتفاوض

جمال العفلق

ازدحمت مواقع الصحافة ونشرات الأخبار بالتقارير الأميركية والغربية حول اشتراك روسيا بالمعارك بشكل مباشر في سورية، ولم تتوقف هذه التقارير التي حوّلها محللون استراتيجيون إلى إنذار واضح يسبق حرباً عالمية، ووصل الأمر إلى تحديد عدد الجنود ونوع السلاح ومناطق وجوده، كانت الماكينة الإعلامية تضخّ الأخبار وكأنها أمر واقع ويردد من خلفها الإعلام العربي المصدق دائماً والمنفذ للسياسة الأميركية هذه التقارير، بل غرق أكثر هذا الإعلام في توصيف الأمر إلى حد اعتبار أن المعركة ستحدث وستُقسَّم مناطق نفوذ روسية ـ أميركية على الأرض، لماذا كل هذا الترويع الإعلامي؟ ولماذا انتقل إنذار الحرب إلى رسالة سلام أطلقها جون كيري وزير خارجية الولايات المتحده الأميركية من لندن يقبل التفاوض مع الحكومة السورية إذا ما قبلت التفاوض ومن خلال إيران وروسيا؟

بالتأكيد إن الدعم الروسي لسورية ليس بالسر ولم تفكر موسكو بإنكار هذا الدعم، بل دائماً ما كانت تعلن تمسّكها بهذا الخيار، وتنفيذ عقود بيع السلاح المتفق عليها بين سورية وروسيا من قبل الحرب على سورية، هي العقود التي تنفذها روسيا اليوم، وذلك لقناعة موسكو أن دمشق تخوض حرباً ضد الإرهاب وأن الجيش السوري يحارب قوى متطرفة إذا ما كانت لها الغلبة وهذا لن يكون، إن وجه العالم سوف يتغيّر وإن كل شيء مهدد على هذه الأرض، فقوى الظلام لا تعترف ببقاء أي شيء لا إنسان ولا حجر. وحملات القتل والترويع التي نفذتها وتنفذها هذه المجموعات لا تحتاج إلى جهد كبير لإثباتها، كما أن تدمير الآثار وسرقتها هما من ضمن هذا المشروع الذي أعدّت له هذه المجموعات في معسكرات التدريب الأميركية والتركية. وتحت إشراف خبراء من «إسرائيل» وتمويل عربي مُعلن.

إن روسيا طلبت التنسيق معها كي لا تحصل حوادث وهذا الطلب لا يعني أن روسيا تهدّد إنما تحذر من وقوع خطأ، ولكن الإعلام الأميركي حوّل هذا الطلب إلى لهجة تصعيد عسكري الهدف منها اقتصادي بالدرجة الأولى، إذ أرادت أميركا الاستفادة من التحرك الروسي الطبيعي تجاه سورية وتحميل الحلفاء خصوصاً من العرب عقوداً جديدة ومشاريع عسكرية سوف تعود بمبالغ كبيرة على الخزانة الأميركية، فقد استثمرت أميركا سابقاً ما تسميه الخطر الإيراني قبل التوقيع على الاتفاق النووي، وكلفت الخزائن العربية مليارات الدولارات بحجة الخطر الإيراني على المنطقة. واليوم ها هي تستثمر التحرك الروسي من أجل تكبيل الدول العربية المتحالفة معها بعقود جديدة واتفاقات عسكرية تضمن لأميركا كسباً أكبر، فهذا التصعيد الإعلامي لم يكن مبرراً خصوصاً أن روسيا منذ بداية الحرب على سورية وعلى رغم وقوفها إلى جانب دمشق وتعطيلها أكثر من قرار في مجلس الأمن، إلا أنها كانت وما زالت تدعو إلى حلّ سلمي وتوافق سوري ـ سوري على الحوار، وطلبت دائماً من الدول المعنيّة وقف تمويل الإرهاب الذي لم يتوقف حتى اللحظة، فأميركا ما زالت ترسل المرتزقة عبر تركيا والأردن وبعض مناطق العراق، إذ ما زال داعش يتمتع بحرية الحركة والتنقل على رغم الأسطوانة الأميركية الدائمة حول ضربات موجعة تنفذها في المنطقة لم تحقق أي شيء على الأرض.

وما كاد هذا التصعيد الإعلامي حول قرب المواجهة العالمية والإنذار بالحرب يصل إلى قمته، حتى خرج علينا جون كيري وزير الخارجية الأميركي بتصريح مفاده: «إن على الرئيس السوري بشار الأسد الرحيل لكن ليس على الفور»، مضيفاً: «إن الصراع في سورية طال أكثر مما يجب، وإن الوقت قد حان للبحث عن سبل لإنهاء الحرب الدائرة منذ أربع سنوات ولوضع حد لأزمة اللجوء». وهنا بدأ الاستثمار الأميركي الثاني للدعم الروسي، حيث أرادت الولايات المتحدة تقديم نفسها كدولة مُحبّة للسلام وأنها تدير سياستها على أساس نشر المحافظة على السلام العالمي وأنها اليوم تريد الحلّ السياسي استجابة منها للوضع الإنساني في سورية، بينما هي من أوجد هذا الوضع وتريد اليوم من روسيا وإيران إقناع السوريين بالتفاوض معها لإنهاء هذا الصراع، وكلمة صراع هنا بحسب التعبير الأميركي هي كلمة مظللة، فما يحدث في سورية ليس صراعاً داخلياً إنما حرب بين القانون والإرهاب وحرب تديرها الولايات المتحدة و«إسرائيل» من خلال المرتزقة الذين جُمعوا من كل أصقاع الأرض، وهي حرب موّلها العرب ودعمها الغرب واستثمر فيها تجار الحروب، وإذا كان كيري يريد وضع حدّ لأزمة اللجوء فعليه أن يبلّغ موظفيه العاملين في ما يسمى بائتلاف الدوحة وقف نشاطهم في التجارة بالسوريين، حيث تدار شبكات التهريب في تركيا ويقبض عليها الأتراك ملايين الدولارات مقابل توفير قوارب ليس لها اسم إلا اسم قوارب الموت.

فهذا الانتقال من التصعيد إلى الدبلوماسية هو تكتيك تتبعه أميركا لتغطي فشلها الكبير وتجد لها وللحلفاء الممولين مخرجاً من مستنقع الحرب على سورية، فما تحقق في سورية من كل المشاريع التي أعلنتها أميركا شيء واحد هو تدمير البنية التحتية وتدمير الاقتصاد السوري فقط وقتل وتهجير الإنسان السوري.

وهذا يؤدي بنا إلى سؤال ألم تكن أميركا ومن معها يعلمون بالفعل أن سورية لن تسقط ببساطة وأن التكاليف التي رُصدت لهذا العدوان أصبحت أكبر بكثير من المتوقع؟ فالقررات العربية والأممية ذات الصلة كانت كلها تهدف إلى تقويض الوجود السوري، ولكن الواقع على الأرض كان مخالفاً لكل هذا حيث فشلت تلك القوى في تحقيق أي تغيير ملموس على الأرض، وبقي الجيش السوري يقاتل واشترك مجاهدو المقاومة في المعارك، إذ تشتكي «إسرائيل» اليوم وتعلن تخوفها من تراكم الخبرات الذي أصبح لدى المقاومة، وهذا أمر آخر لم يكن في الحسبان لدى العدو الصهيوني. حيث فرضت اليوم ضربات الجيش والمقاومة واقعاً جديداً على أرض الميدان، واليوم يقبل حلفاء وممولو الجماعات الإرهابية هدنة جديدة على محاور كفريا والفوعة والزبداني ومضايا، وذلك غداة فشل هجوم الجماعات المسلحة والرد الأعنف من قبل الجيش السوري والمقاومة اللبنانية.

ويبقى على الأميركيين تأكيد قرار وقف تمويل الإرهاب والتنسيق مع دمشق وموسكو لضرب مواقع الجماعات الإرهابية لا رمي صناديق السلاح والطعام كما حدث في العراق من قِبل طيران ما يسمى التحالف الدولي ضد الإرهاب الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأميركية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى