خالد علوان: فنّ الحضور وعلم الاختزال
ناصر قنديل
– يتساوى الشهداء في العظمة مهما كانت ظروف استشهادهم والمعارك التي يرتقون فيها شهداء، لكن تبقى للبعض وشهاداتهم معانٍ خاصة ودلالات في المكان والزمان والسياق تجعل من شهاداتهم منصة لاستخلاص معان مكثفة وعبَر تاريخية، وتشكل رؤوس جسور لطريق على الأمم ألا تتجاهلها، ومن هذه الشهادات شهادة القائد القومي خالد علوان الذي نفذ في 24 أيلول 1982 عمليته النوعية في مقهى الويمبي في شارع الحمراء ببيروت بُعيْد انتشار قوات الاحتلال في العاصمة اللبنانية بساعات، وارتياد عدد من ضباطها وجنودها لمقاهي شارع الحمراء الشهيرة، تعبيراً عن رسالة أرادوا أن تقول للعالم إنهم يتنزّهون في عاصمة عربية ثانية سقطت بين أيديهم بعد القدس، وإن ليس هناك ما ومن يفرض على الجيش الذي لا يُقهر أن يعيش حالة حرب.
– في مثل هذه الحالات تصير أمة كاملة في كفة ميزانها الوجودي، لكنها أمة فقدت جيوشها وقدراتها وصناع القرار فيها، ومن بقي منها واقفاً على قدميه كان محاصراً مستفرداً ومستنزفاً، كما كانت حال سورية وجيشها تلك الأيام بين حربي «إسرائيل» والسعودية وبينهما «الإخوان المسلمين»، بصورة كثيراً ما تشبه صورة اليوم، وكانت الأمة تبحث عمّن يختزلها، يمتلك إرادتها بردّ الصاع صاعين، يعبّر عن شعورها بالخجل والخذلان فيغسل العار عن جبينها ويداوي جراحات قلبها، يقول لها ما زالت أرحام الأمهات تلد رجالاً، وكان البلد الحزين لبنان والمدينة الصاخبة بيروت، في حال تيه وارتباك، بين من يريد للتاريخ أن يُكتب وفقاً لمعادلات العين التي لا تقاوم المخرز، ومشهد صبايا يحتسين الشمبانيا مع جنود الاحتلال ويرقصن لهم أمام دباباتهم، وتعريف لوطن الأرز بصفته سوق ترفيه لكلّ وافد، ولو سمّاه البعض بسوق البغايا الذي يحبّ بعض العربان اختصار هويته بصفته هذه، وفي المقابل شباب وصبايا ورجال ونساء تعاهدوا على أن لا يدعوا لبنان لا ممراً ولا مقراً لهذا المحتلّ، يتمسّكون من مواقعهم العقائدية المختلفة بمعادلة قوة لبنان بمقاومته وليس بضعفه، لكن كلّ هذا التناوب بين الهويات المفترضة للبنان كان يحتاج إلى من يختزل معنى الوطن، والأحزاب التي تختزن طاقات نضالية جبارة وعقولاً لا تهون ولا تهين، في حال من ارتباك وتشوش، بين السياسة والمقاومة أو الجمع بينهما، والعقائد العظيمة في حال سكون وذهول، والكلّ بحاجة لمن يذكر ويقرع الجرس حتى تستفيق القلوب والعقول وتتخذ أماكنها في حال الصراع، الذي بشرت به العقائد وتأسّست لأجله الأحزاب. ومثلما كان على عقيدة وحزب بعينهما تقدّم الصفوف بين العقائد والأحزاب دفاعاً عن قدسيتها جميعاً كمثال أعلى في أممها وأوطانها، كان الحزب ينتظر وكانت تنتظر العقيدة علم الاختزال ومن سيخرج من بين الصفوف ينفذ المهمة.
– الأمم والأوطان والعقائد والأحزاب والمدن تمرّ بلحظات تاريخية، تفقد فيها كلّ الأشياء معانيها ما لم تتحوّل الهوية إلى فعل، فعل صاعق صارخ مزلزل يعيد صياغة الأشياء، يترك بصمة لا تمحى، فيستدير التاريخ ويسلك منحاه الجديد احتراماً وخضوعاً للمشيئة، والمشيئة هنا هي صنّاع الفعل، وهذا ما يسمّيه المؤرّخون بالفعل الثوري الذي يغيّر مجرى التاريخ، وما يسمّيه علماء الاجتماع بالدور النادر والاستثنائي للفرد في التاريخ، فيتكثف التاريخ عند لحظة، ما مضى منه وما سيأتي، وهي لحظة تدور حول عقارب ساعة يد يحملها رجل أو امرأة، بشر عاديون، يتقدّمون ويتربّصون، يتباطأون، يسرعون، يلهثون ويأخذون قسطاً من الراحة، لكن التاريخ يكون قد توقف بانتظارهم، لم يعد منتبهاً إلى شيء آخر في هذه اللحظة وما يجري خلالها من أحداث كبرى، من قمم للكبار، وتحرّكات للجيوش، وإنفاق لموازنات، فقد حجز الموعد وربط التاريخ بعقارب ساعة اليد البسيطة المعلقة بيد هذا الكائن البشري البسيط، وهنا تتغيّر أقدار البشر ومكانتهم وصفاتهم، تصير العظمة كلها هنا ويسقط العظماء الآخرون عن لوائح الانتظار، لا يبقى رئيس الدولة العظمى عظيماً، ولا جنرال الجيش المعظّم له مكان بين العظماء، ولا صاحب المال وعباقرة الشعر والنثر ومخترعو الأدوية ومبتكرو أجهزة التبريد والتدفئة ورواد الفضاء وصنّاع الأرقام القياسية في غينيس، فكلّ شيء عظيم يفقد مهابته أمام الحدث المنتظر، وكلّ عظمة الأفراد الخيّرين والشرّيرين تصير أفعالاً عادية، لأنّ الشيء العظيم وحده هو ما سيتمّ الآن وقد صار قيد الولادة، على يد عظيم يكتب معادلة رياضية جديدة، أما في علم المكان، فتضيق خريطة العالم وتصغر حتى تختصر بلبنان كما لو أنّ التاريخ يعلّب على خرائط غوغل بفأرة التصغير والتكبير، ويضيق لبنان ويختصر في بيروت، وتستحضر بيروت كلها في شارع الحمراء، ويصير شارع الحمراء اسمه مقهى الويمبي، وفي مقهى الويمبي يصير المكان كله مساحة قدم مربّعة يقف عليها رجل، ويختصر حجم الرجل الواقف والمكان كله بمساحة فوهة مسدّس سيشهره هذا الرجل بعد نبضة قلب ويكون كلّ شيء قد كتب وانتهى.
– في هذه اللحظة وهذا المكان وبهذه العظمة، كتب خالد علوان قصيدته وابتكاره ورسم خريطته وأنهى الاشتباك مع عقارب ساعة يده البسيطة، مدوّناً باسم حزبه وعقيدته ومدينته ووطنه وأمته، مسيرة السنوات اللاحقة، أيها المحتلون لستم في نزهة لقد دقت ساعة رحيلكم من الآن، أعلن أنا خالد علوان ابن العقيدة القومية وابن بيروت البار ولادة زمن المقاومة.
– إنه فنّ الحضور وعلم الاختزال.