الـ«نحن»… والهوية
نظام مارديني
يوماً بعد يوم تتسم العلاقات بين الجماعات في سورية والعراق «سوراقيا» بالصراع المكشوف حيناً، وبالضرب من تحت الحزام أحياناً، بعدما وجدت هذه الجماعات الوطنية نفسها أمام انكشاف بين ليلة وضحاها، كتتويجُ للهجمة الكبرى التي يتعرض لها كلٌ من سورية والعراق، غير أن هذا الصراع يعيد من جديد تأكيد أهمية السؤال «الهوياتي» الفلسفي، من نحن؟ الذي طرحه النهضوي أنطون سعاده، وذلك قبل أكثر من ثمانين سنة.
بالطبع لم يأتِ الصراع بين الجماعات إلا تتويجاً لعملية تراكمية بطيئة، حيناً، وغير مرئية، أحياناً. ويمكن، دائماً، بأثر رجعي، أن نرى في حدث لجماعة ما تحوّلاً مفصلياً، على رغم أن هذا الحدث نفسه قد يكون وكأنه لم يكن يوحي بذلك في زمنه. إذ إن خضوع الشعب للتسلّط لعقود، تسبّب بنشوء «طبائع الاستبداد» في المجتمع كما يقول الشيخ عبدالرحمن الكواكبي، ما أنتج مثقفين نفعيين وانتهازيين، يروّجون لطغيان الهويات الفرعية ويدافعون عن مرتكزاتها وفلسفتها، ما أوقع المجتمع أمام ثقافتين: ثقافة السلطة المتسلطة التي تسير ضمن أنساق عقلية القوة، وثقافة الجماعات التفتيتية، وكلاهما مبني على عدم العقلانية والمنطق.
يقول الباحث العراقي ميثم الجنابي: «إن الاحتلال الخارجي محكوم على الدوام بتلازم قوة الخارج وضعف الداخل»، إذ وقف العراق أمام حلقات مفرغة يدور ضمنها، هي حلقة «تحريره» من السلطة القائمة واحتلاله كله! وهي حلقات اضمحل من خلالها البديل العقلاني، بحيث أدت إلى تصنيع هذه السلسلة الغريبة التي وجدت انعكاسها في مفارقة أن تصبح جمهورية العراق ديمقراطية عبيد! راجع «الهوية العراقية ومشروع البديل الوطني الحوار المتمدن 8/3/2013».
مما لا شك فيه، أن تفكيك الهوية الوطنية هو أولاً وقبل كل شيء فعل ذاتي، جعل من الممكن التدخل الأجنبي وفعالية أساليبه في تعميقه أو تحويله إلى «منظومة». وقد تفجّرت أنساقها المضمرة بعد احتلال العراق عام 2003 الذي كشف عن هشاشة الوطنية مقابل تضخم الحمائيات المرعبة للهويات الفرعية.
حروب الوقائع التي تجرى على أرضنا منذ احتلال العراق عام 2003 وضعت المجتمع «السوراقي» أمام رهانات مفتوحة، فهذه الحروب هي ذاتها حروب الحقائق، ويراد لها أن تكون حروباً نهاية «المركزيات» لتصبح دويلات هجينة، تأتي ضد الجغرافيا والتاريخ، وفي الجغرافيا والتاريخ، والمهم في هذه الدويلات الهجينة أنها متلازمة في عقدها وفي جبهاتها، وفي طبيعة القوى التي تقف وراءها.
سيناريو الأحداث منذ عام 2003 الذي جرى ويجري على أرض ساخنة، ووفق ترسيمات متقاطعة، تتبدى عبرها أدوار لدول المنطقة التي تقودها السعودية وقطر وتركيا، والتي تعمل على تدمير الدولة الوطنية في كل من سورية والعراق، وعلى إثارة نزاعات الاقتتال الطائفي والعرقي، والتقاطع السياسي، ومنع أي فرصة لإحداث تغيّرات لحوار سياسي بين الجماعات من جهة، وبين هذه الجماعات والدولة المركزية من جهة أخرى، وفق مبدأ المواطنة، حتى باتت الوقائع تتشكل بالضد من الحقائق، ومما يضخ فيها مزيداً من الصراع والاحتراب في ما بينها، وصولاً إلى مرحلة العصيانات ضد الدولة المركزية من ضمن الحروب المؤجرة لقوى إقليمية ودولية لها أجندتها وحساباتها، وأوهامها في السيطرة على الموقع المحوري في المنطقة، وهو الهلال السوري الخصيب.
يضاف إلى أن مركزية الدولة التاريخية العصابية بوصف ابن خلدون أضعفت أيضاً أيّ تحول سياسي وثقافي واقتصادي داخل بنيتها المغلقة، وعزلت نظام الدولة السياسي عن التاريخ والجماعات، وفرضت في المقابل نوعاً من التشييد الأسطوري للدولة، على طريقة الفيلسوف الألماني أرنست كاسيرر، وهي ما تعني رمزياً هيمنة أسطورة القوة والرعب والطاعة، واستحكام الماضي بالحاضر، وإفقاد الهوية القومية أي قوة أمام هوية السلطة ورهاب زيفها، بحسب الباحث العراقي علي حسن الفواز «المشرق» 22/9/2015 .
السؤال الذي لم يعد يحتاج إلى تورية يتمحور حول هوية من يقف خلف هذه الحروب؟ ومن يموّل قواها العنفية والتكفيرية، ومرجعيات خطابها السياسي والعقائدي؟ وكيف برزت الهويات الفرعية للجماعات وكأنها في حرب دموية وليست من شعب واحد، جاءت حصيلة تفاعل الجماعات مع بعضها خلال آلاف السنين، وكما يفترض أن تكون عليه الحياة الطبيعية للمجتمع «السوراقي».
في المجتمعات التي تغيب عنها فكرة المواطنة تبرز الاختلافات الخاصة بالهوية بين الجماعات، وهناك من العوامل المؤثرة في التشدد في الالتزام بالهويات الخاصة ومنها الفقر والبطالة والتخلف في ظل أنظمة تسلطية، وهذا ما يؤدي إلى مجابهة كل القيم الحديثة. ونرى أن من الطبيعي في هذه القراءة الإشارة إلى أنه طوال أكثر من نصف قرن حاكى أنموذج الدولة/الأمة العربي مثيله الأوروبي في نسخة سيئة مستوردة عنه، وتجلى مشرقاً عربياً في هيمنة نخب تبنت صَهراً إثنياً ومذهبياً قسرياً للجماعات وصبّها في بوتقة هوية سياسية جديدة، وراكمت تحت الرماد انقسامات إثنية ومذهبية حاولت تغطيتها سياسات عزل وتمييز ضد الجماعات التي تتمرد على هذا الأنموذج القسري، أو تطالب بتمثيل «ثقافتها» على نحو عادل في الهوية العامة للدولة/الأمة الجديدة.
ويشير مفهوم الهوية إلى ما يكون به الشيء هو نفسه، أي من حيث تشخصه وتحققه في ذاته وتميّزه عن غيره، فهو وعاء الضمير الجمعي لأي تكتل بشري، ومحتوى لهذا الضمير في الآن نفسه، بما يشمله من قيم وعادات ومقومات تكيّف وعي الجماعة وإرادتها في الوجود والحياة داخل نطاق الحفاظ على كيانها.
غير أنه يوجد من ينتزع عن الهوية سمتها الاجتماعية الثقافية، فيراها سياسية فقط لها علاقة بالمواطنة، حيث الافتراض بأن الهوية تقوم على أساس ثقافي، مبني على فكرة التجانس الاجتماعي، وهو افتراض غير مبرر، وهناك رأي آخر يرى في الحداثة أنها مسؤولة عن الربط بين الهوية الثقافية والهوية السياسية، الأمر الذي أدى إلى صراعات اجتماعية داخل مجتمعاتنا، وهذا ربط لا يكون حقيقياً إلاّ عندما تعبّر الهوية السياسية عن الهوية الثقافية التي يُنظر إليها على أنها فعل مرتبط بالماضي والمستقبل، بينما الهوية السياسية فعل يقوم في الغالب على معطيات الحاضر .