هكذا فَرَطت العصا السحرية الروسية سُبّحة أميركا وحلفائها
د. محمد بكر
تحولاتٌ في المواقف الغربية حيال الأزمة السورية أقل ما يمكن أن توصف بالاستراتيجية لم تكد تمضي فيها أيام على الجديد الأميركي على لسان كيري حتى توالت التصريحات تباعاً، كل مفردات التصعيد والرحيل وفقدان الشرعية وأنْ لا مستقبل للأسد في أي عملية سياسية باتت من الماضي الغربي الغابر، فابيوس عدّ الحديث عن رحيل الأسد حديثاً غير واقعي، كذلك فعل نظيره هاموند، ميركل بدورها دعت إلى مشاركة الأسد في أيّ حلّ سياسي للأزمة السورية، حتى أردوغان أكثر المتطرفين والمتعنتين من شخص الأسد بات يرى أن هناك إمكاناً في أن يكون الأسد جزءاً من المرحلة الانتقالية في إطار الحلّ السياسي للحرب السورية، بدوره استشعر لافروف بتطورات الموقف الأميركي لجهة أنه أصبح أكثر تقبلاً للموقف الروسي، بثينة شعبان هي الأخرى تكشف عن تفاهم ضمني بين واشنطن وموسكو في ما يخصّ الملف السوري، وأن هناك توجهاً لدى الإدارة الأميركية الحالية لإيجاد حل للقضية السورية، يعود كيري ليتوج كل تلك التحولات بإعلان مبادرة أميركية جديدة، في حين أعلنت كبيرة المفاوضين الأميركيين ويندي شيرمان عن قبول واشنطن محاورة طهران حول الأزمة السورية.
أي عصا سحرية أشهرها سيد الكرملين لتستولد كل تلك الانعطافات والتحولات في سلوك غربي متحجر دام أكثر من أربع سنوات، وأي « فتلٍ» صاغه الروسي لعقول زائريه الذين باتوا يحطون في رحاله بالجملة والمفرق؟ وهل بات المناخ الدولي اليوم هو مناخ تأسيسي للانفراجات وحلحلة السياسات المتصلبة؟
يبدو بالفعل أن بوتين بدأ بالنهوض والتحرك السريع من استراحة محارب كان يرقب ويتلمس يقيناً مدى الالتفافات والمراوغات التي تصوغها الولايات المتحدة من خلال تحالفها في مواجهة الإرهاب، تحالفٌ لم يحد مطلقاً ولو بالحد الأدنى عن الامتدادات والارتدادات التي لطالما حذرت منها مراراً وتكراراً الأطراف المشتبكة فعلاً مع هذا الإرهاب، مغتنماً الفرصة المناسبة ليمضي قدماً في تعزيز طروحاته وفرد إمكاناته، ليضع الإرادات الغربية على المحك ويختبر الترحيب الأوروبي لجديد الخطوة الروسية، خطوة ٌ لم يجد فيها الروسي أي حرج في تظهير الكذب في الرواية الأميركية التي نفخت وهوّلت من بعبع داعش ليعلن أن ذلك الغول لن يصمد طويلاً أمام قدراته في استراتيجية يحيكها باقتدار ويشرع فيها بتعزيز مفاعيل جهده الدولي لجهة بناء تحالف صلب وباسمه وتحت سقفه يستقطب أطرافاً وازنة في المنطقة وذات حضور إقليمي فاعل بمنزلة بيضة القبان التي في امتلاكها واجتذابها قد يتغير الميزان الدولي كلياً وتصبح معادلة رابح ـ رابح بعيداً من متناول الأميركي أو بالحد الأدنى خفض الكتلة الربحية الأميركية إلى أدنى مستوى لها في هذه المعادلة، وتالياً التأسيس للتفرد الروسي في القرار الدولي، هذه البيضة التي شكلت مصر جوهر معالمها وملامحها من خلال زيارة السيسي الأخيرة إلى موسكو والإعلان المشترك بين الجانبين عن أهمية الجبهة الروسية الجديدة في مكافحة الإرهاب وهذا ما شكل في اعتقادنا الأساس في الانعطافة الأميركية.
جملة من الأسباب الأخرى والمتغيرات في المشهد السياسي والميداني شكلت في مدلولاتها حجر الأساس أيضاً لإدراك الأميركي عقم محاولاته التصعيدية وعدم جدوى سياساته وتعويلاته على إحداث خرق أو أي إنجاز نوعي على الأرض السورية:
– ما بدأ يتبدى من مفاعيل التنسيق الروسي الإيراني عالي المستوى لتكريس الزخم والأثر الفاعل في ما يمضي الروسي إلى صياغته لمحاربة الإرهاب، هذا التنسيق الذي جاء تصريح الرئيس روحاني كترجمة عملية له عندما أعلن بكل لغات ومفردات الثقة أن القوة الوحيدة في المنطقة القادرة على سحق الإرهاب هي الجيش والحرس الثوري الإيراني.
– سقوط جملة من الأوراق الأميركية التي كانت تشكل من المنظور الأميركي أوراقاً ضاغطة على الخصم في مقدمها فشل غرفة موك في تحقيق الهدف الذي وجدت من أجله، وما خطه المتحدث باسم عاصفة الجنوب أدهم الكراد من نعي لتلك العاصفة التي لم تعد هائجة على الإطلاق وباتت بالمعنى الاستراتيجي «نُسيمات» تنتظر حتفها.
– نفاذ الاتفاق النووي الإيراني وما استولده من توافقات في المشهد الدولي برمته يدرك فيه الأميركي أن اليوم الأول من بعد المصادقة عليه وشرعنته سيكون وفق المنطق السياسي للأمور ميلاد مرحلة جديدة في سلوكه وتعاطيه ليس مع إيران فحسب بل مع حلفائها أيضاً.
– إدراك الأميركي أن أي انخراط وتعاون مع الجانب الروسي في ما يتعلق بمكافحة الإرهاب على الأرض السورية إنما يستوجب بالضرورة العمل وفق المحددات والمعايير الروسية وتالياً التنسيق مع الجيش السوري الذي عدته موسكو الجهة الوحيدة القادرة على محاربة الإرهاب في سورية لذا كان لزاماً على الأميركي وحلفائه تصدير صور المرونة في الخطاب السياسي بما يشكل عملياً المصادقة الضمنية على الانخراط في تحالف موسكو بقيادة بوتين.
نعم الروسي ألقى ما عنده وقدم معروضه وخطته وطبيعة تحالفه الجديد، وهذا ما بدأ يظهر جلياً في السماء السورية، كذلك فرد الإيراني صفحاتٍ ملأى بسطور الثبات والثقة في الانتصار على الإرهاب، تدرك خلاله واشنطن وحلفاؤها أن الحراك الروسي ونشاطه العسكري لن يكون على الإطلاق على قاعدة استعراض العضلات و»نفش الريش»، لذا يبدو اللحاق ومشاركة العصا الروسية الفولاذية في ما هي ماضية إليه واقتسام «الغنائم السياسية» معها من المسلمات والبديهيات وإن كان ذلك سيفرط السبحة الأميركية في تحالفها الدولي المزعوم ضد الإرهاب.
كاتب فلسطيني مقيم في سورية
mbkr83 hotmail.com