جمال عبد الناصر: الأمة في رجل

عبد الرحيم مراد

يندر أن تعرف الأمم تاريخاً عظيماً لا يكتبه عظماء، ويندر أن تواصل الأمم مسيرتها على طريق العظمة إن تنكرت لعظمائها، والعرب لم يعرفوا زمناً ذهبياً في تاريخهم المعاصر كالذي عرفوه مع جمال عبد الناصر، ولن يعرفوا استعادة بعض منه من دون إحياء قيم وشعارات جمال عبد الناصر.

العروبة التي نذر عبد الناصر حياته لجعلها هوية جامعة للعرب، تظهر اليوم كحاجة تتخطى مجرد الحلم والطموح لوحدة تحشد القدرات والإمكانات وتنشئ تكتلاً هائلاً للقدرات السكانية والجغرافية والموارد المادية والعسكرية تتيح للعرب تبوؤ مكانة لائقة بين الأمم، في عالم يتجه أكثر فأكثر نحو التكتلات الكبرى، ولا يعرف إلا بالأقوياء، بل صارت العروبة الترياق الوحيد القادر على تقديم هوية جامعة حضارية تحول دون تفشي سموم التفتيت التي تتغلغل في أجسادنا، بعدما ثبت أن صيغة الدول والكيانات الوطنية والقطرية أعجز من أن تنتج بدائل تشبهها للهوية العربية، تحول دون تقدم وانتشار الهويات الكامنة العرقية والطائفية والمذهبية التي تمكنت من أجساد أوطاننا وها هي تتغلب عليها وتفترسها.

الأمن القومي العربي لم يعد مجرد تتمة تفصيلية لمقتضيات بناء الدولة بل صار موجهها الرئيسي، وقد رسم له جمال عبد الناصر إطاراً يبدأ من الاستقلال الوطني ومارس على أساسه سياسات توجت بخطط للتنمية والبناء والعمران بقيت رموزها الحية حاضرة حتى يومنا هذا من تأميم قناة السويس إلى بناء السد العالي، واتخذ على أساسه مواقف عبرت عنها وقفاته برفض العطاءات المشروطة للغرب بممارسة التدخل في شؤون مصر والبلاد العربية، وبخوض غمار المقاومة والمواجهة مع العدوان الثلاثي الذي تعرّضت له مصر في العام 1956، واستنهاض القدرات العربية لإسقاط حلف بغداد عام 1958 بالاستناد إلى مقدرات الشعوب، فكانت الثورات في العراق وسورية والوحدة المصرية السورية، ووقفة الوطنيين اللبنانيين وصولاً لظهور أول مشروع حقيقي لبناء الدولة في لبنان من قلب وفي حضن مشروع جمال عبد الناصر.

هذا المفهوم للأمن القومي العربي الذي مثلت فلسطين بوصلته في زمن جمال عبد الناصر، يشعر العرب بأنهم اليوم أشدّ حاجة إليه مع دخول فوضى المصطلحات والمعايير، حتى بات هناك من يريد أن يصنع للعرب عدواً من بين أصدقائهم ويريد لهم أن يتخذوا من العدو صديقاً، في أشد لحظات التاريخ تيهاً وضياعاً للبوصلة العربية عن فلسطين، وفي أشدّ لحظات حاجة فلسطين لاهتمام العرب ومساندتهم وتلبية نداء الاستغاثة الآتي من قبلة المقدسات في المسجد الأقصى.

«ارفع رأسك يا أخي لقد ولى زمن الاستعمار»، صرخة عبد الناصر المدوية لزرع ثقة الإنسان العربي بنفسه، هي الصرخة ذاتها التي كرّرها المقاومون في جنوب لبنان وفي فلسطين والتي كانت حداؤهم في صناعة النصر بمختلف عقائدهم وانتماءاتهم، حتى كان قول سيد المقاومة «لقد ولى زمن الهزائم وجاء زمن الانتصارات» تحقيقاً لوعد عبد الناصر وتتمة لندائه.

في ذكرى رحيل الزعيم جمال عبد الناصر نستذكر الرجل المتواضع المحب للخير والناس وبساطة العيش وترفع الخلق، كما نتذكر القائد الذي ضاق صدره بالهزيمة فخرج يعلن التنحي بدلاً من الوقوف على منابر التبرير والأعذار، وله لو أراد ألف عذر وعذر.

خمسة وأربعون عاماً تزيدنا تمسكاً بالعروبة هوية والاستقلال قيمة وفلسطين بوصلة والمقاومة خياراً، وتزيدنا تقديراً لمكانة رجل بحجم أمة، وشعوراً بحجم الخسارة، ومعاني الحقائق التي تحفر عميقاً في التاريخ.

رئيس اللقاء الوطني اللبناني

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى